فلسطينيون من 48 يخرجون من عالم البطالة والفقر، علبة.. علبة!
روزين عودة - عرب 48 - أعد هذا التقرير لصالح مشروع مضمون جديد
قبل بضع سنوات، كان الفقر قد وصل بربة البيت "ش" حدا لم تكن تستطيع معه توفير لقمة العيش لابنائها الا بالكاد.
اما اليوم، فان هذه المرأة التي تقطن احدى المدن العربية في اسرائيل، تستطيع امتاعك بقصص مشاهداتها هي وزوجها وابناءهما خلال الرحلتين الللتين قاموا بهما مؤخرا خارج البلاد بهدف السياحة!.
كيف حصلت هذه النقلة من الفقر المدقع الى رفاهية مكنتها حتى من توفير تكاليف رحلات سياحية لعائلتها؟.
تجيب "ش" ببساطة ان الامر لم يكن وليد ثروة هبطت فجأة من السماء، وانما حصل بالتدريج "علبة .. علبة"!
وببساطة اشد، فان هذه المراة التي يتناقل جيرانها قصتها بازدراء حينا وحسد واعجاب احيانا، تمكنت من اخراج نفسها واسرتها من عنق زجاجة البطالة والفقر المستفحلين بين العرب في اسرائيل، عن طريق العمل في جمع وبيع علب المشروبات الفارغة.
وهي ليست الوحيدة التي اهتدت الى هذه المهنة، ولكنها بالتاكيد من اوائل من انخرطوا فيها وشكلت تجاربهم الهاما لاخرين أخذت اعدادهم تتزايد في الوسط العربي وبشكل ملحوظ في الفترة الاخيرة.
اعادتني للحياة
تروي "ش" قصتها الملهمة في بيتها الذي تبدو عليه علائم الاناقة البسيطة التي تشي بوضع مالي مريح، وتقول "كان وضع عائلتي الاقتصادي يرثى له، وكنت أمر كربة منزل في فترات حياتية لا حول ولا قوة وأحياناً كنت أتمنى لقمة العيش لأطفالي".
وتتابع "وذات يوم مررت بمجموعة علب فارغة كانت ملقاة على قارعة الطريق قرب منزلي، وجمعتها بهدف التنظيف لا أكثر. وبعد يومين رأت جارتي العلب في كيس نايلون بجانب حاوية المنزل فاقترحت علي أن أبيعها لأن هناك من يشتري كل 4 علب فارغة بشاقل واحد (نحو 30 سنتا)".
وبالفعل قامت "ش" ببيع العلب الفارغة التي جمعتها وأخذت مقابلها مبلغاً فاق ما كانت تتوقعه.
ومن حينها قررت جمع العلب الفارغة من الحي الذي تعيش فيه، وباثمانها قامت باجراء صيانة للمنزل، كتصليح الأبواب والغسالة وغيرها، حتى أنها قررت شراء جهاز تلفزيون جديد!
وبما ان هذه العملية كانت مجزية جدا، فقد اقنعت "ش" زوجها بالانضمام اليها، وهو الامر الذي ضاعف اعداد العلب التي اصبحت تستطيع بيعها.
ما العيب؟
تقول "ش" بنبرة منتشية تنم عن رضا وشعور بالفخر "الحمدالله. منذ ذلك الحين أشعر أن حالة عائلتي الاقتصادية تتحسن شيئاً فشيئاً، واليوم وصلت وعائلتي إلى وضع مثالي، لأننا نجحنا في تجميع وبيع مئات آلاف العلب الفارغة، وتقاضينا مقابلها مبالغ كبيرة".
وتضيف "تعاونت مع زوجي على تسديد الديون، والتوفير لأجل مستقبل أطفالنا، ناهيك عن أننا سافرنا إلى خارج البلاد مرتين منذ بداية تجميع العلب".
تعيش "ش" الان مع عائلتها المؤلفة من 4 أفراد، حياة رفاهية دون ضغوط مادية أو غيرها، ولا زالت حتى اليوم تجمع العلب الفارغة لأنها تؤمن أنها الطريق نحو حياة أفضل، ناهيك عن أنها تؤمن أن بيع العلب يساهم في المحافظة على البيئة من ناحية أخرى.
لكن هذه المراة المكافحة لا تخفي شعورها بالامتعاض من نظرة "الاحتقار" التي يرمقها بها المجتمع.
وتقول "لا زلت لا أفهم ما العيب في جمع العلب؟! لم يحتقرني أحد عندما كنت ابحث عن كسرة الخبز لأطفالي، ولم يساعدني أحد على النهوض من مستنقع الفقر الذي عشت فيه أعواما طويلة".
وتتابع بثقة وقوة شكيمة "العمل ليس عيباً لكن العيب أن أعمل بما لا يرضي الله، والعيب أكثر أن لا أفكر بإنقاذ عائلتي، أنا امرأة تحلم بمستقبل مشرق لأطفالها، ولن أعير أي انتباه لأي نظرة تحتقر عملي، أنا أحترم هذه العلب الفارغة الذي ملأتني قوة وأعادتني للحياة".
تجارة مربحة
العلب التي تجمعها "ش" ليست معدنية فقط، بل هي ايضا تجمع العلب البلاستيكية.
والكميات التي تجمعها يمكن بيعها مباشرة وبكل سهولة الى المتاجر بفضل قانون في اسرائيل يدعى قانون الوديعة على العلب الفارغة، والذي يهدف بالدرجة الاولى الى الحفاظ على البيئة.
وبحسب القانون، الذي يطلق عليه قانون الرهنية كما هو دارج، ، فان المتاجر ملزمة برد مبلغ 25 اغورة (نحو 7 سنتات) لكل من يعيد اليها عبوة مشروب سعتها ما بين 100 ملل واقل من 1,5 لتر.
ومن جهتها، تقوم المتاجر باعادة العبوات الى المزودين الرئيسيين، وتحصل على اثمانها بحسب القانون، وذلك وصولا بهذه العبوات الى مصانع تقوم بتدويرها واعادتها مجددا الى الاسواق.
ولا تخضع للقانون سوى العبوات التي تحمل اشارة خاصة بالرهنية، والتي يتجاوز عدد المتداول منها في الاسواق المليار عبوة سنويا، في حين ان المعاد تدويره يبلغ نحو 900 مليون.
وبما ان الكميات التي تجمعها "ش" وغيرها ممن يمتهنون جمع العلب، هي كميات لا يستطيع متجر عادي شراءها كلها، فان الفائض يجري بيعه الى اشخاص بعينهم يقومون بدورهم ببيعها الى المزودين او مصانع اعادة التدوير، وجميعها يملكها يهود.
على ان هؤلاء الاشخاص يقومون كذلك بشراء العبوات غير الخاضعة للقانون، والتي تكون لها طرق تصريف واثمان هي الاخرى، وان كانت اثمانا اقل من تلك يمكن جنيها من علب الرهنية.
ويؤكد رامي، وهو ممن يقومون بشراء العبوات ممن يجمعونها ويبيعها لمصانع اعادة التدوير، ان "جمع العلب وبيعها تجارة مربحة للغاية".
ويوضح رامي الذي فضل عدم نشر اسمه صريحا "أنا على سبيل المثال، وأعتقد أن هذا هو حال الجميع، اشتري من الزبائن (أي من يجمعون العلب) كل 6 علب فارغة بشاقل واحد، وابيعها لمحلات بيع الحديد كل 4 علب بشاقل".
وفي الوقت الذي تسيطر فيه جماعات معينة على سوق جمع العلب في بعض الدول، لتشكل ما يشبه العصابات احيانا، الا ان رامي يؤكد ان الامر ما يزال في نطاق عمل الافراد فقط في الوسط العربي في اسرائيل.
ويقول "من يجمعون العلب هم من أفراد المجتمع لا حول لهم ولا قوة، ناهيك عن أنهم بنظر المجتمع عمال نظافة ومُحتقرون!".
ستار الليل
ويعمل في جمع العلب أشخاص بالغون عموما، وهم ليسوا فقراء بالضرورة، فهناك مثلا شخص من يافة الناصرة يعمل حارساً في المدارس ولديه راتب شهري يفوق راتب موظف عادي، ومع ذلك يجمع العلب ويبيعها.
ونادراً ما نجد عائلات كاملة تعمل في تجميع العلب وبيعها.
وتتفاوت اوقات عمل هؤلاء، حيث أن معظمهم يفضل التجوال في شوارع المدينة بعد منتصف الليل، كي يتسنى لهم جميع العلب بعيدا عن الضجيج والأعين، وينهون عملهم قبيل طلوع الشمس.
وخلال جولتهم الليلة هذه، يجوبون شوارع وأرصفة المدينة، لكن اماكنهم المفضلة هي محطات الحافلات والسيارات والحاويات وخصوصا تلك الموجودة امام المقاهي والمطاعم.
ويمكن ملاحظة ان اصحاب مطاعم المدينة يتعاونون مع جامعي العلب حيث يخصصون لهم حاويات بعينها يضعون فيها العلب الفارغة.
وليس كل جامعي العلب يعملون ليلا، فهناك ايضا جامعون يعلمون في ساعات الظهيرة، وان كان عددهم اقل من زملائهم ممن ينشطون ليلا.
وهؤلاء تجدهم عند أسوار المدارس والجمعيات والمراكز التجارية والنوادي.
وعند انقضاء جولاتهم يحملون العلب الفارغة في أكياس كبيرة على ظهورهم، ليعودوا بها الى منازلهم، حيث يقومون بتجميعها وبيعها للمحلات المختصة كل يومين أو ثلاثة.
وبالطبع تتفاوت الأرباح من شخص لاخر، وذلك بحسب الاوقات والاماكن التي يقصدها، حيث يخبرنا بعضهم ان من يجمع العلب وقت الظهيرة في المناطق التي تتواجد فيها مدارس تفوق من أرباح من يجمع العلب بعد منتصف الليل.
مخاوف مبررة
ومع تزايد اعداد من يعملون في جمع العلب في اوساط العرب، فان مختصين يبدون مخاوف من ان تعمد شركات ومصانع اعادة التدوير الى محاولة استغلالهم والسيطرة على هذه السوق.
يقول بكر عواودة مدير عام جمعية الجليل ان "الأمر بحاجة إلى رقابة وإلى تنفيذ قوانين عادلة لمنع استغلال الفقراء الذين يجمعون هذه العلب الفارغة من قبل من يُسيطر على معامل ومصانع إعادة التدوير"
ويضيف مدير الجمعية التي تعنى بقضايا الصحة والبيئة والشؤون الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين في اسرائيل "برأيي هؤلاء الأشخاص يقومون بعمل شريف يكسبون من خلاله لقمة عيش شريفة تؤمن احتياجاتهم بكرامة وعلى المجتمع ان يحترمهم للدور المهم الذي يؤدنه".
ولكنه يرى ان "حل مشكلة الفقر لا يمكن التعويل عليه من خلال جمع العلب الفارغة، لأن هذا يبقى حلاً موضعياً ولا يمكن أن يوفر أماكن عمل".
واكد في هذا السياق ان "حل المشكلة يحتاج إلى بناء مرافق اقتصادية وبناء تسهيلات تشكل محركاً ودافعاً للاستثمار والتطوير" في اوساط المجتمعات العربية.
ورغم تحفظاته على قانون الرهنية عموما الا ان عواودة يقر بان له منافع بيئية جديرة.
ويقول "يجب ألا ننسى أن تكلفة جمع العلب يدفعها المجتمع وليس المصنع، أي أن مبلغ الرهنية هو مبلغ يُضاف إلى التكلفة وهذا بحد ذاته قد يشجع المصانع على الاستمرار في تصنيع البلاستيك بدلاً من البحث عن سبل جديدة أقل تلويثاً كونها لا تتحمل التكلفة".
ويضيف "وعلى أي حال، جمع العلب وبيعها واعادة تدويرها يُساهم في حماية البيئة ونظافتها، فلو أنها لو بقيت ملقاة فهي لا تضر فقط من ناحية المظهر العام إنما أيضاً سيستغرق تحللها من 200-500 عام".
إفقار ممنهج
ومن جهته، فقد اعتبر امطانس شحادة منسق مشروع الرصد السياسي من "مدى الكرمل" المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، ان ما يضطر العرب الى العمل في مثل هذه المهن، هو سياسة الافقار الممنهجة ضدهم من قبل الدولة.
وقال شحادة انه "بعد سنوات من إهمال تنمية الاقتصاد العربي..نجد بوادر لسياسات اقتصادية ليبرالية نوعاً ما، تسعى لتحسين بض المؤشرات الاقتصادية لدى الفلسطينيين، تقتصر على مستوى الأفراد فقط، وتصب في المحصلة العامة في مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي وفقاً لتوجهات المحافظين".
لكنه قال ان "تلك التحولات تعمل على فصل الاقتصادي عن السياسي، وتتجاهل المطالب السياسية للفلسطينيين وشروط خلق نمو اقتصادي مستدام".
وتابع "ازدادت منذ منتصف الثمانينات وتيرة تحول الاقتصاد الإسرائيلي من نمط اقتصاد شبه اشتراكي جماعي استيطاني، إلى نمط اقتصاد رأسمالي. كان تأثير هذه التحولات في السياسات الاقتصادية وفي مبنى الاقتصاد والصناعة سلبياً ولحد كبير على الفلسطينيين في إسرائيل".
وقال "بدأت بوادر هذه التحولات بالتكشف والظهور نهاية التسعينات لكنها تفاقمت في بداية الألفية الحالية وانعكست أساساً في ارتفاع مستويات الفقر، معدلات البطالة، المشاركة في أسواق العمل وفقاً للفروع الاقتصادية والمهن ومعدلات الدخل".
ويشكل العرب ما نسبته 21 بالمئة من السكان في اسرائيل الذين يناهز عددهم سبعة ملايين. وتبلغ نسبة البطالة بين العرب عموما (ذكورا واناثا) اكثر من 17 بالمئة، مقابل 6,6 بالمئة لليهود.
ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فان هذه البطالة المرتفعة اسهمت في زيادة نسبة العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر في إسرائيل الى 47.6 بالمائة.
إستمع الآن