عمال الضفة بإسرائيل ... مجتمع الخوف والفزع والحرمان

الرابط المختصر

أم الفحم – محمد خيري - مضمون جديد

لم يعد العمل في إسرائيل حلمًا لآلاف الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية، الذين ألقت بهم الأزمة المادية المُتفاقمة في مدنهم وقراهم إلى الداخل الفلسطيني، يملؤون ما شغر من مهن مختلفة خلت ممن يديرها في الآونة الأخيرة، بعد أن ضاق الاحتلال ذرعًا بالعمالة الأجنبية، سواءً تلك القانونية أم تلك التي سببتها الهجرة غير الشرعية للأفارقة الذين لجئوا من ضيم بلادهم وشح مواردها إلى جحيم الاحتلال.

يبدو جليًا واضحًا، الارتفاع المتزايد بشكل مضطرب لأعداد العمال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، عمّالٌ قلما يجدون مأوى يقيهم حر الصيف أو برد الشتاء القارص، فألقى بهم القدر إلى الخيام المنصوبة على التلال أو في السهول، أو تلك التي نصبت في الغابات تحيط بها الأخطار من كل جانب وفي كل حين.

وتفرض إسرائيل رقابة مشددة على تواجد العمال الفلسطينيين بدون تصاريح على أرضها، فتعتقل من تستطيع إلقاء القبض عليه، وترحل آخرين إلى ديارهم بعد إجبارهم على التوقيع قسرًا على ما يحد من حركتهم المستقبلية من تعهدات بعدم تكرار " التسلل".

والى جانب ذلك، تلقي القوانين الإسرائيلية المُشرّعة مؤخرًا بظلالها على المواطنين العرب في الداخل، والذين لا يستطيعون إيواء العامل الأجنبي، حتى ذلك الذي تجمعهم وإياه رابطة الدم والعرق والدين، فمصير المجير، سجن واعتقال وغرامات مادية لم تعد محتملة في ظل تنامي ظاهرة البطالة وانتشار الفقر في صفوف المواطنين.

برد وجوع بالخيام

هُناك، في احد السهول والى جانب إحدى الدفيئات الزراعية، يقف الشاب علاء أبو موسى (35 عامًا) من سكان قرية عتيل بالضفة الغربية، يجفف عرقًا لا يجف، ويقلب كفيه، عقب انتهاء يوم عمل شاق، ويقصد مُتجهًا إلى حيث خيمته.

في هذه الخيمة أعيش منذ ثلاث سنوات، يقول أبو موسى :" لم اشعر بالأمن يومًا ولا بالأمان، فنحن هنا -كالمستجير من الرمضاء بالنار-، هربنا من الاحتلال ورقابته وشرطته التي لا تكل من ملاحقتنا والبحث عنا ولا تمل، إلى حيث البرد القارص والحشرات والحيوانات المختلفة ".

ولم يحظ أبو رامي بنظرة يلقيها إلى أبنائه الأربعة وزوجته منذ ثلاث سنوات، " فانا محروم في البعد عنهم، لا استطيع العودة إليهم، اعمل هنا من اجلهم ومن اجل مستقبلهم، فلا أمل بالعمل أو حتى بالعيش في الضفة الغربية في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تكاد تطبق على أنفاس السواد الأعظم من الشعب".

ولولا الهاتف، لانقطع كل سبيل للتواصل بين العامل الفلسطيني وذويه، فأبو موسى، يخشى العودة إلى دياره لزيارتهم والاطمئنان عليهم، فطريق العودة إلى حيث العمل، ليست طريقًا سهلة، نتيجة لما يحفها من مخاطر على حياة العمال ومستقبلهم ورزقهم.

هي حياة ذُل وقهر، كما يراها علاء، الذي أضاف بصوت حاد منقطع :" ليست هذه حياة بشر، هي اقرب إلى البؤس والقهر منها إلى الاستقرار، طعامنا في المعلبات فقط، في معزل عن أنواع الطعام المنوعة التي يهنأ بها غيرنا".

فقر يُبدد أحلام الشباب

وفي مدينة " طولكرم" لا تبدو الحياة أكثر رفاهية، فهذا الشاب محمد عوفي ( 20 عامًا) لم يجد بدًا من قطع مشواره الدراسية، بعد أن دخل الجامعة لفصل واحد، ليعجز عقب ذلك عن دفع مستحقاتها، فألقى بنفسه في سوق العمل بإسرائيل، حيث بالكاد يحصل على القليل مما قد يروي ظمأ عائلته ويؤمن له مستقبله في بناء المنزل والزواج.

يُشارك الشاب العوفي الذي يعمل في الزراعة في احد حقول قرية " جت" في المثلث المحتل عام 1948، عددا من العمال الفلسطينيين خيمتهم هناك بين الأشجار، حيث يبيت يجلده الشتاء بسوطه ولا يغشى عيونه رقادُ.

لا أمنٌ ولا أمان

هذه ليست حياة، يقول الشاب، " هنا لا أمل في أن تعيش مطمئن البال، أو تتذوق طعم الحرية، فأنت ملاحق على مدار الساعة، جائع طوال النهار، مهدد في أمنك وحياتك، فالحشرات الضارة كما الأفاعي والعقارب تزورنا في كل حين".

وأكد الشاب أن عددا من عمال الضفة الغربية قضوا نحبهم، نتيجة تعرضهم إلى لسعات العقارب والأفاعي ليلا وخلال النوم، خلال السنوات الأخيرة الماضية.

وقال إن " فقرًا مدقعًا يحيط بالمواطنين في الضفة الغربية من كل جانب، فم تعد الخطط الاقتصادية التي تعضها السلطة والحكومة هناك تجدي نفعًا، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية الحارقة التي لا تبقي ولا تذر، مشيرا إلى أن الكثير من أقرانه، من وجدوا أنفسهم مخيرين بين العيش في ضنك الحياة بالضفة، أو العمل في إسرائيل على رغم مخاطره، فاختاروا الثانية، " فحياة الخطر"، كما يقول " خير من أن يتلوى أفراد عائلتك جوعًا أمام ناظريك لا تجد ما تسعف به جوعهم أو تسد فيه رمقهم".

العُمال .. مجتمع المُغتربين

وللحكاية أيضًا جوانب مختلفة وزوايا كثيرة، فالأمر يتعدى كونه البحث عن المال والغذاء والمسكن، فهناك حيث يربض عمال الضفة الغربية، حياة اجتماعية مُصغّرة، مجتمع بناه هؤلاء في معزل عن العالم المحيط، حتى لو كان عالم ومجتمع عربي فلسطيني.

يقول الشاب عكرمة آسيا من بلدة " عتيل" :" استطاع عمال الضفة الغربية التأقلم مع هذه الظروف، وتشكيل مجتمع خاص بعهم في منأى عن المجتمع الذي نعيش في داخله حتى المجتمع العربي في الداخل".

ويضيف :" الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 لا يستطيعون الاختلاط بنا كعمال من الضفة بشكل مكثف نتيجة للقوانين والرقابة الإسرائيلية، هذا إلى جانب حالة من الانقسام الاجتماعية والتشرذم في بعض المفاهيم التي نعاني منها، فكثير منا يعد غير مقبول على هؤلاء المواطنين".

وأشار إلى أن السبب يرجع في صورة غير ايجابية نقلها بعض عمال الضفة الذين عايشوا المجتمع بالداخل، إلى جانب بعض وجهات النظر التي يحملها عدد غير قليل من العرب في إسرائيل وأفكاره مسبقة حول هؤلاء.

ذل ومنفى وحاجة للبقاء

ولكن على الرغم من ذلك، يقول آسيا، " استطعنا التأقلم وبناء مجتمع خاص بنا، فنحن نستقبل عمال الضفة الوافدين، نساعدهم على إيجاد العمل والمسكن، لا مسكن هنا سوى الخيام، فهي وحدها المتوفرة وسريعة النقل، في ظل الهجمات التفتيشية التي تشنها شرطة الاحتلال الإسرائيلي".

وخلص بالقول :" على الرغم من حالة الخوف الدائم، والخطر المحدق بالحياة، وحياة الذل والمنفى والبرد والحر، إلا أننا مستمسكون بالبقاء، تدفعنا الحاجة الملحة إلى المال، فهناك بالضفة إخوان لنا وأبناء، هم بأمس الحاجة إلى ما نجمعه من أموال نسد فيها رمقهم، ونرسلها إليهم من خلال احد الزائرين أو العمال العائدين".

وناشد آسيا السلطة الفلسطينية بالسعي الجاد وراء الاستقلال الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي، وتطوير المؤسسات الوطنية، وإقامة المشاريع الاقتصادية الخاصة بالفلسطينيين، وتوفير فرص عمل لمئات الآلاف من العاطلين، " أنقذونا من حياة القهر، فلعل أصعب ما قد يعانيه المرء ذل في وطنه، وفقر في كنف أرضه وأهله".