العمران يلتهم زراعة غزة ..!

الرابط المختصر

غزة - محمد عثمان - مضمون جديد

يقف "أبو محمد حمد" أحد ملّاك الأراضي في مدينة رفح في قطاع غزة أمام قطعة أرض كان يوما يمتلكها قبلَ أن يبيعها لتاجر إثر ضائقة مالية تعرّض لها، فبني عليها التاجر مبنى سكنيا فدمّرَ أشجار البرتقال التي كانت تزيّنها.

أبو محمد نادما على ما ارتكبته يداه ويقول: "كانت من أجمل الأراضي الزراعية في المنطقة وأخصبها، وكنت أزرعها بالحمضيات وكانت تنتج كميات كبيرة، ناهيك عن الجزء اليسير الذي تركته منها كحديقة إن شعرت بضيق الحال في الدنيا، فاهرب إليها، اليوم أشعر بالندم وأنا أراها قد تحولت إلى اسمنت".
العمران في قطاع غزة يلتهم الأرض الزراعية، وهي مشكلة عربية لا تستشعر السلطات العربية وجود مشكلة بذلك، من حيث تآكل الأراضي الزراعية وتقدم العمران في الأراضي الأكثر صلاحية للزراعة.

لقد شهد قطاع غزة منذ تولي السلطة الفلسطينية زمام الأمور فيه عام 1994 زحفاً للمباني على الأراضي الزراعية، خاصة بعد عودة الكثير من الفلسطينيين المُبعدين واللاجئين، فامتدت المناطق السكنية في القطاع إلى المساحات الزراعية التي كانت تكفي المواطنين حاجتهم من الخضروات والفواكه، ويصدرون منها كذلك، ومنذ ذلك الحين شكل زحف العمران على الأرض الخضراء خطراً على السلة الغذائية للقطاع، والاقتصاد الزراعي كذلك، وظهر ذلك جليا من حركة الاستيراد الآخذة بالتوسع.

ويعرب مدير عام التخطيط والسياسات المكلف بوزارة الزراعة د. نبيل أبو شمالة عن أسفه من أن المساحة الزراعية في القطاع في تراجع مستمر نتيجة سببين: الأول الامتداد العمراني والثاني ملوحة المياه ببعض الأماكن ما يؤدي إلى عدم التوجه لزراعتها"

وقال: كانت المساحة العمرانية عام 2005 تشكل 21% من مساحة قطاع غزة, أما في 2008 فقد زادت إلى 28% بواقع 102كم، فالنمو العمراني يزداد بشكل سنوي أكثر من 2% مما يشكل خطرا على المساحة الزراعية".
وأضاف د. أبو شمالة أن النمو السكاني الطبيعي الذي يزيد بنسبة 3,5% سنويا، ما يزيد من مستوى الطلب على المساكن يصل إلى 5.9% كنتيجة طبيعية للزيادة السنوية في عدد أفراد الأسرة الواحدة، وزيادة السكان بشكل عام بنسبة 5% حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

وأكد على أن حجم الخطر المحدق بالمساحات الزراعية في قطاع غزة عظيم إن لم توجد الحلول له، قائلا :"يعتبر القطاع من أكثر المناطق كثافة في العالم فمعدل الكثافة 4013نسمة لكل كيلو متر مربع ومن المتوقع في العام 2025 أن تتساوى المناطق المخصصة للسكان مع المخصصة للزراعة".

وأشار إلى أن سبب الزيادة السكانية في قطاع هو هجرة السكان الفلسطينيين في العام 48 إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ما أدى إلى تكدّس السكان في القطاع الذي تبلغ مساحته 360 كم إضافة إلى مصادرة مناطق جغرافية كثيرة من أراضيه بعد احتلاله وضمها إلى ما يسمى بإسرائيل.

وعن حجم الخسائر التي تعرّض لها القطاع بسبب تضاؤل المساحة الزراعية فيه أكد د. أبو شمالة أن أشهر المحاصيل الزراعية في غزة هي الحمضيات، والتي كانت تُزرع بالقطاع في السبعينات بمساحة 114 ألف دونم أما اليوم فقد تراجعت تلك المساحة إلى 14 ألف دونم.

يقول كنا نسمى الحمضيات "بالذهب الأصفر"، لأنه كان يصدّر إلى أوروبا والدول العربية كونه يمتلك ميزة تنافسية، إلا أنه ما لبث أن تراجع بسبب تفتت الملكية الشخصية لأصحاب الأراضي، وإصابة بعض الأشجار بالأمراض وقطعها، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى الأسواق العالمية والمحلية كذلك وتسويق المنتج الفلسطيني، بعدَ ظهور المنتجات الأوروبية المنافسة".

الحكم المحلي والبلديات مذنبتان!!
ويعتبر غياب الرقابة والتنظيم جزء من مشكلة تقلّص الأراضي الزراعية في قطاع غزة، واستخدامها كذلك في أغراض أخرى كان له تأثير سلبي على أكثر من تقلّص الأراضي.

وفي السياق ذاته قال د. يوسف أبو صفية رئيس سلطة جودة البيئة لحكومة د. سلام فياض والمعفى من حكومة غزة: "لا يوجد ترشيد في غزة حولَ طبيعية استخدامات الأراضي، إذ أصبح من الممكن أن نبني مباني ومنتجعات سياحية ومصانع بأي مكان، حتى لو على الأرض الخصبة، كما أننا لا نملك مخططات لبناء المدن وتخصيص الأرض الزراعية".

وتابع: "ذاكَ سبب تعدٍ شديد على الأراضي الزراعية الخصبة الموجودة في الجهة الغربية من قطاع غزة، أما الجهة الشرقية فهي فقيرة وكلها أراضي بعلية ولا توجد بها مياه..."

وعن المضاعفات السلبية للاستخدام العشوائي للمساحات الزراعية أكد د. أبو صفية أن المنشآت الصناعية تُبنى اعتباطا، قائلا :"يتم بناء المصانع في أي مكان، فمصانع الباطون قتلت كل الأراضي الزراعية، من ينشئ واحد كهذا يدمر كل ما يحيط به من أراضي زراعية بسبب الغبار العادم الذي تخرجه"، مستدركا :" للأسف الكثير من المصانع أخذت تراخيص قبل مجيء السلطة"

وحمّل د. أبو صفية البلديات ووزارة الحكم المحلي السبب في نقصان المساحة الزراعية، فهم من يرخصون المباني السكنية في الأرض الزراعية، وفق قوله، إذ شرح :"إن حُوّلت الأرض الزراعية إلى سكنية، يرتفع سعرها، لذا يلجأ البعض إلى البلديات لترخيصها، وهي ترخصها في المقابل".

تدمير الخزان الجوفي..!!
وساهم تمدد العمران في إيجاد صعوبات القطاع لحفظ ماء الأمطار، فلجهة الغربية من القطاع غنية بالماء، وهي خصبة للغاية، وقد أثر البناء سلبا على الخزان الجوفي لقطاع غزة، إذ لا تمتص التربة مياه الأمطار، وتُفقد في البحر نتيجة تحوّل التربة إلى كتل سكنية، إضافة إلى اختلاط الباقي من المياه الجوفية بمياه البحر، مما يؤثر على جودة الزراعة في الأرض المتبقية لذلك".

واستدل د.أبو صفية بتقرير صدر بعد العدوان الأخيرة على غزة عن حالة المياه الجوفية في غزة إذ ذكر أن الخزان الجوفي يحتاج لعملية تأهيله وتحويله إلى مياه للشرب وصالحة للاستخدام مليار ونصف مليار دولار على مدى عشرين عاما.

للاحتلال دور رئيسي بالمشكلة
وقال د. أبو صفية :" الزراعة في القطاع حاليا لا تكفي السكان على الإطلاق"، شارحا: "لما كانت الأرض في غزة تزرع بمعدل 114 ألف دونم حمضيات كانت تكفي سكان القطاع الذين كان يقدر عددهم ب700 أو 800 ألف نسمة أما الآن فقد تضاعف العدد ونقصت الأراضي الزراعية بسبب التوسع العمراني العشوائي".

التوسع العمراني والاستخدام العشوائي للأراضي الزراعية ليست الأسباب الوحيدة لاندثار ونقصان المساحات الزراعية، فالاحتلال الإسرائيلي سبباً آخرا بل ورئيسياً أيضا في تدهور الاقتصاد الزراعي بشكل عام.

وكما جاء في تقرير لمعهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج) أن الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في الفترة الواقعة ما بين 27 كانون أول 2008 و 18 كانون ثاني 2009 لم تقتصر على استهداف المدنيين و تدمير البنية التحتية للقطاع فحسب، بل عمدت إلى حرمان مواطني القطاع من أبسط الوسائل المتاحة لهم لمواصلة حياتهم الطبيعية أو على الأقل التي كانت طبيعية قبل أن تطلق إسرائيل حمم عدوانها على القطاع و أعادته إلى الوراء عشرين عاما من حجم الأضرار و الخسائر التي أحدثها هذا
العدوان.

وفي تحليل لما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة, أشارت تقارير أولية إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة وما قامت به الآليات و الجرافات الإسرائيلية من دمار و خراب، ومجمل العملية العسكرية في القطاع أدّت إلى تدمير ما يقارب 57 كم² من الأراضي الزراعية في غزة, و التي تشكل ما نسبته (29٪) من المساحة الإجمالية للأراضي الزراعية في القطاع و التي تبلغ 196 كم².

وهذا ما أكدت عليه مديرة البرامج والمشاريع في الإغاثة الزراعية بغزة، ابتسام سالم لـ "مضمون جديد" إذ أوضحت: "استمرار وجود المنطقة العازلة التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي على حدود قطاع غزة في الشمال يعني أكثر من 25% من الأراضي الزراعية الخصبة في قطاع غزة عمليا لا يتم استغلالها مما يشكل تهديدا إضافيا لمسالة الأمن الغذائي الزراعي ( الزراعات البعلية والحقلية وأشجار الفاكهة تحديداً )".

وعن أسباب تدهور الزراعة في قطاع غزة وتقلّص مساحتها قالت: "تدمير وتجريف حوالي 40000 دونم زراعي في سنوات ما قبل حرب غزة يضاف إليها حوالي 15000 دونم خلال حرب غزة الأخيرة، إلى جانب تدمير عشرات الكيلومترات الطولية من الطرق الزراعية والتي تشكل جزءا هاما من البنية التحتية الزراعية".

كل ذلك أدى إلى حرمان أكثر من 15% من مزارعي القطاع من فرص العمل في أراضيهم الزراعية الخاصة، وبالتالي انضمامهم إلي جيش العاطلين عن العمل واعتمادهم على المساعدات الغذائية بدلا من مساهمتهم في إنتاجها.