الجلوة العشائرية: "عقاب جماعي" برعاية رسمية

-وثائقيات حقوق الإنسان- مجدولين علان قبل نحو شهرين، اجبرت السلطات ثلاثين اسرة من بينها اسرة محمد صلاح على مغادرة مدينة معان على عجل، بعدما اتُهم احد اقربائها بقتل شخص من عشيرة اخرى في المدينة. يومها، اعترى الذهول افراد تلك الاسر بعدما وجدوا انفسهم مضطرين للنزوح عن المدينة، ودون ان يعلموا الى اين يتجهون. والان، يعيش هؤلاء مشردين في انحاء البلاد، وعينهم على مستقبل مجهول، بعدما خلفوا وراءهم بيوتهم ومصادر رزقهم، لا لذنب اقترفوه سوى صلة القربى مع المتهم الذي يقول محمد صلاح انه ابن عم لوالده ولا يذكر انه التقاه يوما. والاجراء الذي لجأت اليه السلطات مع محمد واقربائه، ياتي في اطار ما يعرف بالجلوة العشائرية التي لا تزال تتسبب بتهجير عشرات الاسر سنويا عن اماكن سكناها في الاردن. وبحسب ارقام وزارة الداخلية، فقد شهد الأردن 16 جلوة عشائرية عام 2011، كان بينها حالة شملت اجلاء اكثر من مائة اسرة عن لواء الهاشمية في الزرقاء اثر جريمة قتل. رعاية رسمية ورغم إلغاء للقانون العشائري عام 1976، الا ان الأجهزة الرسمية لا تزال ترعى بشكل أو بآخر تطبيق اجراءات التقاضي العشائري، ومنها الجلوة، حيث تنفذ بقوة القانون وعبر الحكام الإداريين والأجهزة الأمنية. ويتيح قانون منع الجرائم المثير للجدل حيزا وسلطات واسعة للحكام الاداريين عند تطبيق اجراءات الجلوة، وبكافة مراحلها. وتبدأ هذه المراحل مع عطوة "فورة الدم"، وهي هدنة تؤخذ فور وقوع الجريمة، ومدتها ثلاثة ايام وثلث اليوم، تليها العطوه الأمنية التي قد تمتد من ثلاثة أيام وثلث الى ثلاثة شهور. وياتي بعد ذلك عطوة الإمهال، ثم عطوة الصلح وهي آخر المراحل التي تنهي النزاع بين اهل الجاني والضحية. وكانت حالات الجلوة في العهود السابقة تشمل من يرتبطون مع الجاني بصلة قربى حتى الجد الخامس، وتطبق في جرائم القتل والعرض والوجه، اي خرق الهدنة من قبل احد عائلة الضحية. وبموجب وثيقة وقعتها العشائر عام 1987، اصبحت الجلوة مقتصرة على اقرباء الجاني حتى الجد الثاني، ولا تطبق الا في جريمتي القتل والعرض. الا ان العديد من الجلوات لا تأخذ ببنود هذه الوثيقة، وتعتريها المغالاة من قبل اهالي الضحايا الذين يصل الحد ببعضهم الى اشتراط جلاء من يرتبطون مع الجاني بقرابة حتى الجد العاشر. ويعتبر قرار القضاء العشائري نافذا بفعل شروط مسبقة يضعها القضاة لضمان التزم الاطراف، من قبيل وجود كفلاء من وجهاء وشيوخ عشائر يقومون بدفع كفالة مالية عالية لتنفيذ القرار. معاناة وحقوق ورغم حقيقة ان الجلوة تسهم في حقن الدماء، إلا ان تجارب الكثير ممن تم اجلاؤهم تفيض بالمعاناة كما حصل مع محمد صلاح الذي خسر وظيفته ويجهد الان في البحث عن مصدر رزق في منفاه في عمان. ويقول محمد "كان جل اهتمام المحافظ هو إخراجنا من معان وتنفيذ الجلوة دون النظر في ما قد يلحق بنا من ضرر واذى جراء ذلك، كما لم تتوفر اي ضمانة رسمية او قانونية تحمي أرزاقنا وحقوقنا نتيجة ترك اماكن اقامتنا". كما ان الجلوة حرمت ريان، ابن عم محمد من الدوام في جامعته، وسيكون عرضة للتأخر عاما عن زملائه في الدراسة كما يقول، فيما يواجه والده المدرس في جامعة معان والمعيل لثلاث اسر احتمال فصله من العمل. وتشكل حالتا ريان ومحمد خرقا واضحا للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه الاردن، ويكفل الحق في التعليم والعمل، وكذلك للدستور الاردني الذي كفل حق المرء في الإقامة في المكان الذي يريده. ويصف عامر بني عامر مدير مركز حياة لدراسات المجتمع المدني الجلوة العشائرية بانها "عقاب جماعي" بسبب ما ينجم عنها من مشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية تطال جميع اقرباء الجاني. ويعتبر بني عامر ان الجلوة بهذه الصورة تشكل انتهاكا لأبسط ابجديات القانون الذي يحرم العقاب الجماعي مهما عظمت الجريمة. ويتفق بني عامر مع محمد صلاح في ان الحاكم الإدراي المشرف على تنفيذ الجلوة "لا يمارس سوى اجبار اهل الجاني على ترك اماكنهم دون اي مسوغ قانوني". ويضيف ان من يخالف الحاكم الاداري في تنفيذ الجلوة عادة "يهدد اما بالسجن او التنصل من حمايته". ويرى بني عامر ان تطبيق الجلوة اصبح صعبا جدا في الوقت الحاضر، نتيجة تعقيدات الحياة، وذلك خلافا للماضي عندما كانت حياة البداوه تتيح التنقل من مكان لآخر كنمط معيشي سائد ومتبع من قبل الجميع. دفاع ولكن.. ومن جهته، يرى سليمان ابو عليم شيخ عشيرة العليمات، فان "من الظلم بمكان النظر الى الجلوة بالسلب كلية". ويعدد ابو عليم ما يعتبره فضائل للجلوة قائلا انها "تساهم في حبس فورة الدم وتساعد في ان ياخذ القضاء مجراه". بيد انه لا ينكر وجود تعسف في تطبيق بعض إجراءت الجلوة، كإجبار جميع من يتصل بالقربى مع الجاني حتى الجد الخامس على مغادرة سكناهم. رغم وثيقة العشائر عام 1987 التي تحصرالجلوة في أقارب الجاني من الدرجة الاولى "اي من يشترك مع الجاني في دفتر العائلة"، ويشير العليمات الى ان احد اسباب هذا التعسف يتمثل في عدم اهلية بعض الشيوخ والوسطاء المسؤولين عن الفصل بين اهل الجاني والضحية وعن تنفيذ اجراءات الجلوة. ويضيف سببا اخر وهو بطء اجراءات التقاضي، والتي قال انها تولد شعورا لدى اهل الضحية بأن "الجاني لازال حرا وان القانون لم يأخذ لهم حقهم منه". ويقول ان هذا الشعور يجعل جنوح اهل الضحية الى الصلح صعبا، ويدفعهم الى فرض شروط قاسية على اهل الجاني، كالحكم ببقائهم في الجلة لمدد قد تتجاوز احيانا 10 سنوات. ومن جانبه، يدافع متصرف لواء الشونه الجنوبية سامي الهبارنه عن الجلوة بوصفها اجراء يدرأ فورة الدم ويمنع اي جريمة قد تحصل على خلفية حادثة القتل. ويشدد الهبارنة على انه لا خيار امام الدولة مجسدة بالمتصرف او المحافظ، سوى الوقوف على الحياد وانهاء إجراءات الجلوة باسرع وقت ممكن. ويرى خبراء أن العمل بالجلوة سيستمر واقعا لغايات حل النزاعات بين المواطنين بسبب التركيبة العشائرية للمجتمع، لكنهم يدعون الى ادخال تعديلات عليها وبما يخفف من الاثار الاجتماعية الكارثية التي تتسبب بها في شكلها القائم حاليا. وقد برزت في هذا السياق بعض المبادرات الواعدة، ومنها الوثيقة التي توافق عليها شيوخ ووجهاء محافظة الكرك عام 2011، وحددوا فيها اسسا اقل قسوة للجلوة العشائرية. ومن هذه الاسس حصر الجلوة في الاب وابنائه الذكور في حال كان هو الجاني، على ان يتنحى اخوته الذكور خارج اللواء لمدة لا تتجاوز اسبوعين، واذا كان الجاني هو الابن، فيلحق به والده واخوته من ابيه فقط. كما اعتبرت الوثيقة الأماكن العامة خارج اللواء حقا للجميع لناحية ارتيادها كالمستشفيات والدوائر الحكومية والمدارس والجامعات ووسائل النقل وما في حكمها على أن يتجنب ذوو الجاني ما أمكن أقارب المجني عليه في مثل هذه الأماكن. مراحل الجلوة العشائرية: تبدأ مراحل الجلوة بتوجه الحاكم الاداري فور وقوع الجريمة الى اهل الضحية ليأخذ منهم العطوة الامنية، وهي هدنة امان يمنحونها لاهل الجاني ومدتها ثلاثة ايام وثلث اليوم. وتنص هذه العطوة التي يكتب صكها بوجود مندوبين عن الامن العام ووزارة الداخلية، على عدم المساس باهل الجاني طوال تلك المدة، وعدم العرض لهم خلال مغادرتهم لبيوتهم اثناء الجلوة العشائرية. وبالتوازي، يقوم الحاكم الاداري والاجهزة الامنية بالاشراف على عملية جلاء اهل الجاني لحمايتهم من اي اعتداء خلال ما يعرف بفترة "فورة الدم" لدى اهل الضحية. وفي حال اعتراف الجاني يوقع صك ما يعرف بعطوة الاعتراف بعد انتهاء مدة الهدنة الاولى، لتبدأ بعدها عودة من تم اجلاؤهم الى اماكن سكناهم. اما اذا لم يعترف الجاني، فيجري توقيع عطوة تفتيش، وفي هذه الحالة لا يعود اي ممن تم اجلاؤهم الا بعد صدور حكم قضائي من المحاكم المدنية في الجريمة. ويجري توقيع هذين النوعين من العطوات بحضور الاطراف المتنازعة وممثلين عن الحاكم الاداري والاجهزة الامنية اضافة الى العشيرة التي احتمى بها اهل الجاني والتي يطلق عليها "وجه الدخالة". وعادة ما يعقب توقيع عطوة الاعتراف اجراء يسمى "العد"، ويصار اليه مباشرة بعد انتهاء مدة هذه الهدنة، ويتضمن تحديد صلة القربى بين الجاني ومن تم اجلاؤهم، وذلك بهدف اعادة من يرتبطون في القرابة من الجاني لما بعد الجد الخامس. اما من يرتبطون مع الجاني حتى الجد الخامس، فيبقون في اماكن جلائهم لمدة عام. على انه لا يصار الى اجراء "العد" في حالة عطوة التفتيش الا بعد صدور حكم المحكمة في الجريمة. وبعدها تاتي المرحلة الاخيرة، وهي عطوة الصلح، والتي يحدد فيها الطرفان قيمة الدية، والتي يجري بعدها توقيع العطوة التي تأخذ بها المحاكم وتعتمدها باعتبارها عذرا يخفف من الحكم الصادر على الجاني. شاهدوا فيلم عن الجلوة من انتاج وثائقيات حقوق الانسان، قام بتنفيذه المهندس غسان فرج

أضف تعليقك