جاري البحث عن رمضان ..
تتفاوت الأسباب والمبررات لمن ينتظر شهر رمضان من عام لآخر، ما بين متدين راغب لأجر، وما بين مشتاق لعودة التواصل والتواد المفقود بين أفراد العائلة الواحدة طوال أيام السنة، أو مغترب يجدها فرصة لقضاء إجازته بين الأهل، وأولئك عشاق أجواء السهر الرمضانية.
وكل تلك الأسباب مشروعة وإنسانية، تعزز اختلاف الشهر وتميزه، إلا أن هناك من ينتظر الشهر بلهفة مزعجة وجشعة عاما بعد عام، تلك الشركات الاستهلاكية التي تتزايد سطوتها على “طقوسنا الإيمانية” ، بدء من حبة التمر وصولا إلى مآدب الإفطار وخيمنا الرمضانية التي لا تحمل من رمضان سوى أسمه.
لا يعني ذلك أنني ضد اختيار الطريقة التي يقرر شخص أن يقضي فيها شهره ، ولكنني أرى أن نتمعن قليلا بروح هذه العبادة ومبررات فرضها، وكونها شرعا عبادة خالصة لله وفقا للحديث القدسي، وليس طقسا اجتماعيا أو مهرجانا إعلانيا أو موسما دعائيا ، إذ أن عبارة “رمضان موسم” أصبحت العبارة الأكثر ترديدا قبل هلول هلاله.
الأصل أن يكون الصيام فرصة لنا من منظور إيماني للتفكير والتدبر والإحساس بالآخرين والشعور معهم، ومن منظور صحي هو فرصة لتعويد الجسد على الجوع والعطش من جهة، وإخضاعه لتنظيف إجباري من السموم التي نتناولها طوال العام بنهم من جهة أخرى.
ولكن كل ما يحدث في رمضان هو عكس ذلك تماما، فالإحساس بالآخرين يكاد يغيب تماما، رغم حملات الإفطار والصدقة وطرود الخير ….الخ التي نسمع بها، والدليل على ذلك :ضيق نطاق تلك الحملات وذهاب الكثير منها لمن لا يستحق، والأسوأ من ذلك أن البعض يقوم بها من منظور استهلاكي وإستعراضي ويغرق وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي بالأخبار والصور عن “أفعال الخير” تلك.
وما يعرف بواجب” صلة الإرحام” ليس أفضل حالا؛ فأصبحت هذه العادة المحببة عبئأ ماليا ونفسيا وإجتماعيا على الطرفين، وكأن الغاية ليست الأجر والثواب، أواللقاء بعد غياب طال بسبب بعد أو انشغال، وينتهي يوم تلك الواقعة بتنفس الصعداء من الجميع في حال عدم وقوع ضحايا شجار أو خلاف أو عتاب قديم على أقل تقدير.
وليس الواقع بين الجيران بأفضل حالاّ، فلا باب يفتح ولا سلام يطرح ولا حاجة تقضى ، فليس هناك علاقة سابقة أصلا ولا داعي أن تكون في شهر رمضان ، وإن حدث وطرق مسكينا بابا فإن فتح بوجهه باب فالجواب لا يكون دائما بابتسامة وتعاطف، فلم يعد الحال كالسابق عندما كان الميسور حالا يطوف الأحياء بحثا عن مسكين أو محتاج أو فقير ولا يعود إلا وقد وجد ضالته وأراح ضميره.
واليوم نغض الطرف عن بشر يبحثون عن لقمة تسد رقمهم في حاويات القمامة ونشيح ببصرنا عنهم إما إشمئزازا أو تأثرا لحظيا لا يتجاوز ثوان معدودة ما نلبث أن نستعيد أنفسنا منها بسرعة، لنستأنف سباقنا على طابور خبز أو قطائف او حتى مواد تنظيف.
ولا داعي للحديث عن التلفزيون برمضان وهذا العدد الهائل من المسلسلات والبرامج الذي لا يتناسب من حيث الكم والنوع والمضمون مع الشهر بمضمونه ولا حتى بمدته الزمنية، ليصبح الخيار الأكثر تفضيلا هو قناة “ناشينونال جيوغرافيك” واكاد أجزم أننا نثاب على مشاهدتها في هذا الشهر.
أعود للوراء سنوات عديدة عنما كان يفضل جار مسيحي أن لا يطبخ طعام الغداء والإكتفاء بوجبة خفيفة وتأجيله حتى آذان المغرب، مراعاة لمشاعر جيرانه المسلمين وخوفا من وصول رائحة الطعام لإنوفهم، واليوم يخيم علينا الصمت إثر تردد أخبار عن إعتداء على كنيسة في أول ايام الشهر الفضيل!!!!!
فالتسامح يظل القيمة الغائبة تماما عن المشهد الرمضاني، رغم تسابقنا لطلب السماح والعفو عما سبق ليصح صيامنا في رسائل جاهزة عبر مواقع التواصل الإجتماعي، قبل إعلان المملكة العربية السعودية رؤية هلال الشهر وبالتالي استطعنا نحن في المملكة الأردنية الهاشمية رؤيته بوضوح وإعلان بدء شهر الصيام جلياّ مستقلا لا لبس فيه!.