شبان الغجر في الأردن يعانون العزلة والرفض الاجتماعي

الرابط المختصر

في منطقة مقفرة على الطريق السريع الواصل بين مدينتي المفرق وإربد وعلى بعد أمتار قليلة من حركة المرور المتواصلة على يمين الطريق يرى العابر عدداً من الشبان وهم يجلسون أمام عشرات الخيام المؤقتة المغطاة بالقماش المشمع والتي تحيط بها برك قذرة وأكوام من القمامة، بينما تبحث الكلاب الضالة عن بقايا الطعام في بقايا النيران التي يتم إعداد الوجبات من خلالها، ويتجاذبون أطراف الحديث بلغتهم التقليدية التي حافظوا عليها لمئات السنين، بينما يرى أمام إحدى الخيم صحن ديجتال نصب على الأرض ويبدو وكأنه وسيلة الاتصال الوحيدة مع العالم لهذا المجتمع المنسي.

تلك هي صورة مصغرة عن حياة الغجر في الأردن هذه الفئة الاجتماعية التي عرفت دروب العبودية فابتعدت عنها وجعلهم عشقهم للحرية يعيشون بعيداً عن التنظيمات البشرية المعتادة، واختطوا لأنفسهم مجتمعاً خاصاً أًحيط عبر التاريخ بالكثير من الغموض والغرابة والخروج عن المألوف، ومع ذلك فلا يزال هؤلاء المنبوذين وبخاصة الشباب منهم يعانون العزلة والرفض الاجتماعي.     

ويعود أقدم ذكر للغجر أو "الزط" في بلاد الشام إلى عام 1199 م عندما أسُر منهم خلق كثير يقدرون بنحو سبعة وعشرين ألفا على زمن المعتصم،  وتذكر المصادر التاريخية أن الخليفة الراشدي "علي بن أبي طالب" أول من استخدم الزط (السبابجة) في الدولة كحرس على بيت مال البصرة، وهـو مـا يعني أن جلبهم تم قبل سيطرة الأمويين على العراق، وقد تحسنت أوضاعهم في عهده كغيرهم من الفئات الاجتماعية ، إلا أن مشاركتهم في الأحداث ظلت قليلة.

 وتذكر هذه المصادر أن أول انتفاضاتهم كانت في عهد مصعب بن الزبير، الذي خاض صراعاً مع المختار عقب استيلاء الأخير على الكوفة، مما قد يشير إلى علاقتهم بثورة المختار الثقفي -بحسب الباحث د. منذر الحايك الذي وضع بالاشتراك مع الدكتور "دارم طباع" منذ سنوات كتاباً بعنوان "الغجر الرحالة الظرفاء المنبوذون"- 

ويضيف الحايك إن الغجر تواجدوا في المنطقة العربية منذ القرن الثامن، وتظهر شخصياتهم بشكل متكرر في الأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون لامعون منذ القرون الأولى للإسلام وحتى العصور الوسطى".

ومن أشهر شخصيات الغجر في الأردن الفنان الراحل "عبده موسى" الذي اعتاد على الغناء الشعبي مع الفنانة "سهام الصفدي" ومن أشهر أغنياته "يا عنيّد يا يابا" و"يا قلبي لا تأمنهم" .

يسكن الغجر الذين يقدّر عددهم في الأردن بحسب إحصائيات غير رسمية بـ 70 ألف نسمة في مناطق متفرقة بأعداد كبيرة وأحياناً عدة خيم في مكان ما قريباً من المدينة التي يختارونها. لكن يوجد لهم مخيمات كبيرة في مناطق متعددة. وهم يتنقلون بين المناطق بحسب الفصول والمواسم، ولا تتوفر إحصائيات عن نسبة الشبان ذكوراً وإناثاً داخل هذا المجتمع المهمّش.

 وعلى النقيض من الصورة النمطية في النصف الأول من القرن العشرين، توقف العديد من الغجر عن السفر بشكل مستمر، وأصبحوا مقيمين دائمين في المدن كمجموعات مغلقة ومعزولة، ومع الإقامة الدائمة، تولى العديد منهم أيضاً وظائف يومية منتظمة في مهن مختلفة.

وفي حال عثورهم على عمل يتجنب شبان الغجر الإفصاح عن هويتهم ويبتعدون عن المناقشات التي تستهدف أصولهم، خوفاً من العواقب المحتملة المتمثلة في الإقصاء والتنمر والوصم.

اقتصاد الظل

ويشير شاب غجري رفض الإفصاح عن اسمه لـ"صوت شبابي" إلى أن أغلب الغجر في مجتمعه لا يستطيعون العثور على وظائف لائقة بسبب انخفاض مستوى تعليمهم ومهاراتهم. ويقول: "يهاجر كثيرون، أو يعملون فيما يعرف بـ "اقتصاد الظل"،وربما يرتكبون تجاوزات بسيطة لكسب لقمة العيش، وهناك عدد قليل منهم يكسبون عيشهم من الزراعة وتربية الماشية أو في قطاف المزروعات في المزارع المحيطة بمدينة المفرق. 

 ووفق خبراء في التعليم فإن مجتمع الغجر –إن صحت التسمية- هو أحد المجتمعات التي لديها أعلى معدلات التسرب من المدارس، كما تم تضمينه في تقرير الاتحاد الأوروبي لعام 2012. . ولا يحظى التعليم والتدريب بأهمية كافية من قبل الأسر. سواء بسبب عدم الكفاءة المالية أو لعدم وجود وعي كافٍ بأن ذلك أمر ضروري. 

ويقول الشاب الغجري "علي حسين" 22 عاماً  وهو سائق سيارة أجرة يعمل في مدينة المفرق لـ"صوت شبابي" أن الأوضاع الحالية وتعقيدات الحياة وزيادة الاحتياجات أجبرتهم على التخلي عن حياتهم التقليدية البسيطة التي لطالما ميزّتهم وعرفوا بها".

 ولفت المصدر إلى أن الشبان الغجر لازالوا يواجهون صعوبات في التعامل مع الآخرين وفي الحصول على فرصة عمل ملائمة مثل بقية المواطنين، كون نظرة المجتمع للغجر ما زالت دونية وكذلك بالنسبة للتعليم والإلتحاق بالمدارس.

ويقول "فجر ابراهيم" 17 عاماً الذي بدا مرتدياً ثياباً فاقعة الألوان دون تنسيق:" لديّ أحلام وطموحات بأن يتغير واقعي وأعيش حياة أجمل وأفضل، أن أتعلم وأدرس وأعمل وأتوظّف وأسافر وأعيش في مكان جيّد".

ويضيف بنبرة منكسرة:"نحن محرومين من التعليم بسبب رفض المجتمع لنا، الكثير منّا سُجّلوا في المدارس لكن أهالي الطلبة رفضوا أن نبقى وندرس مع أطفالهم".

وصم اجتماعي

وقد يكون لدى الشباب الغجر في الأردن نماذج إيجابية يحتذى بها. وقد يدرك البعض منهم أنهم قادرون على النجاح والفخر بعِرقًهم في نفس الوقت، بدلاً من النجاح فقط إذا أخفوا عرقهم. ولا يستطيع الغجر أن يحققوا هذه التغييرات بمفردهم وإنما من خلال حملات منظمة لازالة هذا الوصم الاجتماعي. 

ويرى الروائي والكاتب "محمد فتحي المقداد" في هذا السياق أن النظرة الدّونيّة لهذه الفئة الاجتماعيّة المُترحلة طوال عمرها، لا يمكن إدماجها في أيّ من التجمّعات البشريّة الأخرى، لاختلاف التكوين النفسي للغجر النّازعين للحريّة، والتفلّت من كافّة الحواجز والقيود جميعها، كما أنّ الغموض الذي يلفّ حياتهم، وطبيعة اعتقاداتهم وعاداتهم ذات المنحى البسيط، وإقبال نسائهم على الشّحادة والتسوّل، واشتغالهم بأعمال بسيطة كصناعة الأسنان والخناجر والغرابيل وتبييض الأواني النحاسيّة، هذه المهن التي انقرض معظمها ولم تعُد ممارستها ذات جدوى للمعيشة، واشتغال بعض منهم بدقّ الطّبل والرّقص، مما يأباه كثير من النّاس الآخرين من غير الغجر، كما أن الغيْرة والحميّة على نسائهم هو ما رسّخ عنهم النّظرة الدّونيّة لدى مجتمعات الفلّاحين وأهل المُدُن وأطرافها.

 وبدوره روى الناشط الاجتماعي "سامر عبد الحميد العساف" من منطقة الأغوار الشمالية التي يرتادها الغجر كل شتاء ليعيشوا فيها أنه في أوائل عشرينيات القرن العشرين عندما سعى مؤسس الأردن الملك عبد الله الأول، الجد الأكبر للملك عبد الله الثاني، إلى بناء دولة في منطقة شرق الأردن ذات الكثافة السكانية المنخفضة في أوائل عشرينيات القرن العشرين، وكان الغجر  يعتبرون من الأصول المهمة، وتم تجنيدهم في الجيش، بل إن الزعيم القبلي الغجري، سعيد باشا، اعترف به عبد الله باعتباره زعيماً قبلياً محترماً.

وأضاف محدثنا أن الملك الراحل الحسين بن طلال عرض على الباشا "سعيد موسى باشا" أحد وجهاء الغجر آنذاك ألف دونم في منطقة خارج أم الجمال، بالقرب من المفرق في عام 1960.

وبما أن الأرض في ذلك الوقت كانت صحراوية قاحلة ذات بنية تحتية ضئيلة، فقد كان سعيد باشا متردداً في قبول العرض ونقل الغجر إلى هناك.

خصوصية وتميز

ويتميز مجتمع الغجر في الأردن كما في باقي البلاد بخصوصية تميزهم عن غيرهم، كالترحال وعدم الاستقرار في أي مكان، ولهم عالم آخر يميزهم عن باقي الشعوب، لغةً ونمط حياة وأعمال لا يجيدها غيرهم، ومن المهن التي اعتاد شباب الغجر على ممارستها التسول وتركيب الأسنان، وهي المهنة التي برعوا فيها وبعضهم يقوم بصناعة الأمشاط والطبول والغرابيل وما إلى ذلك، فيما يتجه شبان آخرون إلى جمع النفايات والمخلفات الحديدية والبلاستيكية وغيرها من المواد القابلة للتدوير، وعادة ما تُرى أكوام من هذه المواد حول خيامهم التي ينصبوها  كيفما شاء على جوانب الطرق وأطراف المدن، حيث يعيشون في خيم من الصفيح والخيش.

الحجيات والريّاس

أما الفتيات الغجريات فيمارسن التنبؤ بالمستقبل والتسوّل وقراءة ما يُعرف بـ "الودع"    التي تحولت إلى مهن تدر عليهم المال وبعضهم يزاولن مهنة الرقص والغناء في الحفلات الشعبية، وتسمى الفتيات اللواتي يقمن بهذا العمل “الحجيات” ويطلق على هذه الفئة من الغجر تسمية "الريَّاس" الذين  يعتمدون في معيشتهم على حرفة الرقص والغناء، وخاصة النساء منهم بخلاف ما هو معروف عند ” القرباط ” الذين يحترفون النجارة ” صنع الغرابيل ” والحدادة وصبغ الأحذية وخاصة بالنسبة لصغار السن وتصليح الأسنان ولهم شهرة واسعة في هذا المجال.

ولعل من أبرز المهن التي يزاولها شبان الغجر في الأردن كما في غيرها من البلدان المجاورة مهنة تركيب وإصلاح الأسنان، حيث من المعتاد أن يرى المرء خلال تجواله في ضواحي عمان وغيرها من المحافظات والمدن الأردنية أحد الغجر يسير وبيده حقيبة جلدية تحتوي على معدات الأسنان البدائية ويعمل خفية وبعيداً عن الرقابة، لكن هذه المهنة توشك على الإندثار اليوم مع تطور الطب والتقنيات الحديثة، وبات قلة من شبان الغجر يزاولونها ومن هؤلاء "أبو مصطفى" وهو ثلاثيني من أصول غجرية من مدينة السبينة (جنوب دمشق) الذي روى لـ "صوت شبابي" أنه تعلم هذه المهنة منذ نعومة أظفاره على يد والده الذي ورثها بدوره عن جده وكان -كما يقول- يذهب معه في جولاته على بلدات وقرى دمشق، وعندما أتقن المهنة بات يزاولها بمفرده، وكانت مهنة تركيب الأسنان في الماضي-حسب قوله- تلقى إقبالاً واسعاً من الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، حيث لم تكن قد انتشرت عيادات الأسنان والمخابر السنية كما هي اليوم.

عضة عكسية

 ولفت محدثنا إلى أنه يؤمن مواد عمله من مخابر الاسنان والشركات الطبية، ويقوم بتصنيع بعضها الآخر، وأكد محدثنا بنبرة واثقة أنه يستطيع من النظرة الأولى معرفة وضع المريض وحالة أسنانه وطبيعة إصابتها، سواء كانت "عضة عكسية" أو عالية أو منخفضة أو خلل في القياسات، وهذه الأمور يتلقاها طلاب كليات الأسنان كمعلومات نظرية ولكنهم يفتقرون للتدريب، مشيراً إلى أن مهنة تركيب الأسنان تعتمد على الحرفية والخبرة، كما تحدث عن كون مجموعة من طلبة طب الأسنان يترددون إليه للتدريب العملي على كيفية صناعة الأسنان.

فئة مهمشة

ويُنظر إلى فئة المهمشين في علم الاجتماع  ومنهم الغجر بأجيالهم المختلفة على أنها مجموعة من الأفراد أو المجتمعات مستبعدة من التمتع بالحقوق والفرص المتاحة لبقية المجتمع  نتيجة الحكايات المنتشرة عنهم والنبذ الاجتماعي الذي يعانونه .

وتقول الباحثة الاجتماعية "حنين بيادرة" المتطوعة بمنظمة المعهد الجمهوري لـ "صوت شبابي" إن الأردن مثل العديد من الدول يضم فئات سكانية تعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي نتيجة للعديد من العوامل مثل الفقر، العرق، الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي، والجنس.

 وتضيف حنين إن الفئات المهمشة هي تلك المجموعات التي تعاني من نقص في الفرص المتاحة لها بالمقارنة مع بقية المجتمع، مما يؤدي إلى انعزالها وصعوبة اندماجها في النسيج الاجتماعي.

وتضيف محدثتنا أن فئة شبان الغجر تُعد من أكثر المجموعات تهميشاً في المجتمع الأردني. حيث يعيشون مثل ذويهم تحت وطأة ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، ويعانون من نقص الخدمات التعليمية والصحية، وخصوصاً في المخيمات العشوائية التي يعيشون فيها بشكل مؤقت.

 وتعمل الحكومة الأردنية –كما تقول محدثتنا- على عدة برامج لدعم هذه الفئات المهمشة، ومنها: تحسين الوصول إلى التعليم والسعي لتوفير الخدمات الصحية المجانية أو المدعومة للفئات الأكثر ضعفًا منهم.

كما تعمل الحكومة بالتعاون مع المنظمات الدولية والمحلية على توفير فرص عمل وتدريب مهني لتحسين أوضاع هؤلاء الشباب الذكور والإناث منهم على حد سواء 

وتدرج الحكومة في سياساتها التنموية برامج تهدف إلى تعزيز الإدماج الاجتماعي وتقليل الفجوات بين الفئات الاجتماعية المختلفة.

ورغم ذلك لا تزال هناك تحديات كبيرة في تحقيق الإدماج الكامل لهذه الفئات في المجتمع.