في ثلاث جلسات حوارية حول فرص اللجوء وتحدياته، أثار جمهور شبابي من الأردن وسورية ثلاثة هواجس تقلقهم: ضمان فرصهم في علاج معقول، وتعليم مقبول، وعمل مضمون.
مخاوف هؤلاء الشباب مشروعة، وهم يتشاركون الهم ذاته. الفارق الوحيد أن الأردني يعاني في بلده بين أهله وأقربائه، بينما السوري غير قادر على العودة إلى وطنه قبل التوصل إلى حل سلمي قد يستغرق سنوات. وثمّة قلق أيضا من أن يؤدي بقاء اللاجئين إلى تغيير هوية الدولة الديمغرافية، وسط تقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأن معدل مكوث اللاجئ خارج وطنه يصل إلى 17 سنة، وأن نصفهم لا يعود.
وفي حال إهمال هذه الهواجس، فإنها قد تقدح فتيلا يفجر أزمات أمنية ومجتمعية. كما ستشكل وقودا لتغذية الفكر المتشدد والمنغلق الكاره للحياة والآخر. لذلك، لا بد من خلق توافق مجتمعي عبر سلسلة حوارات صريحة بين المعنيين: الشباب، والحكومة، ومنظمات الإغاثة المحلية والدولية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، لتحديد طرق التعامل مع أفق غير واضح.
بدأت هذه الهواجس بالطفو على السطح قبل ثلاث سنوات، وسط تزاحم الجميع على كعكة واحدة. لكنها تكشفّت مع شروع الحكومة الأردنية بتنفيذ استحقاقات المؤتمر الدولي لدعم الدول المضيفة للاجئين السوريين، والذي عُقد في لندن مطلع شباط (فبراير) الماضي. وقد عاد الوفد المفاوض محملا بوعود عن منح وقروض قدرها أربعة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات مقبلة؛ قسم منها يخصص لدعم الفجوة التمويلية في الموازنة العامة وبناء مدارس ومشاف بخدمات أفضل للمجتمعات المحلية واللاجئين. مقابل ذلك، تعهد الأردن بتطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية، وحفز القطاع الخاص، مع ضمان تشغيل 50 ألف سوري العام 2016 (وصولاً إلى 150 ألفا بحلول العام 2018) في مشاريع قائمة واستثمارية مستقبلية ضمن قطاعات لا يعمل فيها أردنيون؛ الزراعة، والبناء، وخدمات الضيافة والتنظيف.
كوكتيل المخاوف تجلّى خلال الجلسة الحوارية الأولى التي نظّمها مساء الأربعاء الماضي "منتدى الفكر الحر"، بالتعاون مع مؤسسة "فريدريش ناومان من أجل الحرية". وقد حاضر في تلك الجلسة د. عمر الرزاز، رئيس مجلس إدارة منتدى الاستراتيجيات الأردني.
تساءل الحضور -وغالبيتهم من الأردنيين- عن حقوق المواطنين وحقوق السوريين في الوعود التي عاد بها المفاوض الأردني من لندن، وعن الصناعات التي ستوفّر فرص عمل جديدة، وفتح أسواق جديدة في الاتحاد الأوروبي، بعد تسريع وتبسيط إجراءات قواعد المنشأ.
أحدهم استفسر: "إذا كان لدى الحكومة 200 ألف فرصة عمل اليوم، فلماذا لا توفرّها للأردنيين لتخفيف البطالة في صفوفهم؟". وأعرب آخر عن شعوره بأن للسوري أولوية على المواطن الأردني: "بتنا اليوم نطالب بالمساواة معهم في الحصول على مساعدات وكوبونات". واشتكى أردنيون من منافسة العمال السوريين لهم على فرص العمل الشحيحة. فيما انتقد مشارك ثالث عدم التركيز على إحلال عمال أردنيين مكان العمالة الوافدة لاحتواء مشكلة البطالة، بدلا من مساعدة السوريين على الحلول مكان العمالة المصرية مثلا؟
أعقبت ذلك جلستان سجلّهما تلفزيون "بي. بي. سي" البريطاني مساء السبت الماضي، بعنوان "أزمة اللاجئين السوريين: لا نهاية في الأفق". وشارك في الجلستين قرابة 150 سورياً، تقيم غالبيتهم في مخيمي الزعتري والأزرق أو في مساكن بإربد. كما حضر الحوار حفنة من الأردنيين المستائين من وطأة الفقر والبطالة. وتحدث الشباب والشابات السوريون عن الرغبة في الهجرة للغرب بحثا عن فرص حياة وعمل تؤمن لهم الحد الأدنى من الكرامة والعدالة والإنسانية.
طالبت غالبية المشاركين السوريين المسؤولين الذين شاركوا في الحلقتين تسهيل هجرتهم للغرب بطريقة شرعية تقيهم مخاطر المهربين والغرق في البحر المتوسط. واشتكى متحدثون من غياب الأفق في الأردن، وفرص الاندماج في المجتمع المحلي.
فيما شدّد سوريون آخرون على أن خيارهم الأول يبقى العودة إلى بلادهم، لأن ثقافتهم ليست "ثقافة لاجئين". لكن الظروف لا تسمح بالعودة مع استمرار القتل والجوع وبقاء نظام بشار الأسد في غياب عدالة انتقالية. وطلب أحدهم من الحكومة السماح لأطباء سوريين بالعمل لخدمة مجتمعاتهم. وتحدث مترجم (عربي-إنجليزي) عن حلمه بالعمل خارج المخيم، بدل الترجمة للضيوف الأجانب الذين يزورون الزعتري. كما اشتكت سيدة من تدني مستوى الخدمات الصحية المخصصة لأصحاب الاحتياجات الخاصة. وسردت معاناة زوجها الذي فقد ساقه في الحرب، فهو "لا يقدر على التحرك أو العمل".
طالبة أردنية تخرجت في كلية الشريعة العام 2011 قالت إنها ما انفكت تبحث عن فرصة عمل؛ "ومنذ جاء اللاجئون السوريون لم يعد هناك أي فرصة متاحة لأنهم يأخذون أي فرص يجدونها بسبب الحاجة التي تدفعهم لقبول نصف ما يعرض على الأردنيين". وأردفت بغضب: "أنا التي يجب أن أكون الأولوية على رأس قائمة المسؤولين الأردنيين". فيما دعت فتاة سورية إلى زيادة منح استكمال الدراسة الجامعية في الأردن.
المخاوف المتنامية التي طرحت في الحوارات الثلاثة عكست ردود أفعال متوقعة في بلد يعاني أصلا من أزمة اقتصادية خانقة، وتحديات الفقر والبطالة، فضلا عن ضعف الخدمات العامة والبنى التحتية. كل ذلك عرّته موجات اللجوء السوري التي أربكت الأردن سياسيا واقتصاديا وأمنيا. ويعاني القطاع الخاص -المحرك الرئيس للاقتصاد- من انكماش يلامس حدود الشلل نتيجة تخبط السياسات الحكومية، وصغر السوق، وغياب الاستقرار في المنطقة، مع انقطاع خطوط التصدير إلى سورية والعراق وليبيا.
يفاقم الوضع عدم اكتراث الحكومة بتحضير الرأي العام للتعامل مع إيجابيات وسلبيات الوعود التي قطعها مجتمع المانحين للأردن، مقابل تغيير نوعي في استراتيجية التعامل مع اللاجئين؛ من متلقي دعم يحلمون بالهجرة للغرب، إلى منتجين ومستهلكين يعيشون بحد أدنى من الكرامة في مجتمع يتشاطرون معه الجوار الجغرافي واللغة والدين والعادات والتقاليد.
جلالة الملك كان أول من بدأ بتحضير شعبه لما هو قادم. لكن قلة من المسؤولين تتحدث بصراحة عن طرق التعامل الواقعي مع السوريين غداة مؤتمر لندن. ولا بد من تنظيم حلقات نقاشية مماثلة لتلك التي سمحت الـ"بي. بي. سي" للاجئين وأردنيين مساءلة كبار المسؤولين الذين شاركوا فيها (الحوارية الأولى سجلت بالإنجليزية مع وزير التخطيط والتعاون الدولي د. عماد فاخوري، والسفيرة الألمانية في عمان بيرجيتا سيفكر، ونائب وزير التربية والتعليم اللبناني، وأندرو هاربر ممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأردن، وهند قبوات ناشطة سياسية وعضو في وفد المعارضة إلى محادثات السلام حول سورية في جنيف. فيما الجلسة الحوارية الثانية بالعربية، وكانت مع وزيري العمل نضال قطامين والصحة علي حياصات، وشادن قلاب مسؤولة السياسيات في المكتب الإقليمي للمفوضية).
إذن، أثار الجمهور المشارك ضرورة ضمانة حقوقهم الأساسية في التعليم والعمل والصحة، مقابل قيامهم بواجباتهم كمواطنين وضيوف. ومن ثم، فإن التحدي يكمن في الطريقة التي ستتعامل فيها الحكومة مع تلك المطالب المشروعة.
بالنسبة للسوريين، الطريق أوضح: التزم الأردن أمام المانحين في لندن بما سمي "ميثاق" أو "عهد" الأردن، مقابل سماحه للاجئين السوريين بالعمل وتحسين خدمات الطبابة والدراسة.
واليوم، شرعت الحكومة بتنفيذ الالتزامات من خلال فتح المجال أمام السوريين لتصويب أوضاعهم وفقا للأنظمة المطبقة مع العمالة الوافدة من الجنسيات غير المقيدة بشروط الإقامة. وسيّرت حملات أمنية على محال تشغل سوريين من دون تصاريح عمل، لإجبار أرباب العمل على تصويب أوضاع العمال المخالفين أو ترحيلهم إلى مخيمات اللجوء لحين تصويب أوضاعهم، بدلا من قذفهم إلى بلادهم حيث واجه بعضهم خطر القتل والاختطاف. وبدأت مكاتب العمل في استقبال عشرات الطلبات للحصول على أذونات عمل.
في مقابل ميثاق الحكومة مع المجتمع الدولي لمصلحة السوريين، لا بد من وضع ميثاق حكومي للشاب والشابة الأردني/ة، يُلزم الحكومات المتعاقبة بالتعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان الحقوق الأساسية في التعليم والعمل والصحة مقابل واجب المواطنة الفاعلة والمنتجة. فما هي فرص التوصل إلى ميثاق وطني يضمن تطوير التعليم، ونظام صحي شامل، وتمكين الشباب بمهارات تحتاجها سوق العمل، ويعزز فرص جذب استثمارات داخلية وخارجية؟
لن يحدث ذلك بين ليلة وضحاها. لكن يمكننا التفكير خارج الصندوق بطريقة خلاّقة قبل فوات الأوان.
الشرق الأوسط يتشكل من جديد بأيدي أميركا وروسيا وإسرائيل، ولا بد أن يبادر الأردن لتحويل التحدي إلى فرص، إنما ليس بأسلوب الفزعات وقنص المنح، بل عبر تفهم معاناة الأردنيين والسعي إلى علاج مشاكلهم، بينما يواجه المجتمع الدولي أكبر أزمة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية.