الغربة الطوعية ولوعة الحنين

الرابط المختصر

بقلم : د علي قليبو

بعد حِلٍّ وترحال، وطول سعي وإدبار وإقبال، لا أنفك مغتربًا عن الديارِ. سنوات مضت عَصَفتْ  خلالها أحاسيس القلق بفؤادي واضطربت عبرها هواجسي، إلى أن حلّ بي المطاف في بيارة صغيرة في قرية الحسينيات على أطراف أحراش جرش وعجلون غرب جبل الأقرع بين بلدة كاسب ودبين، حيث تجتمع عناصر العزلة والخلوة والهدوء، ويتوفر بها الأمن والأمان… في قرية الحسينيات النائية، تحيط بي أحراش البلوط شرقًا وغابات الصنوبر والأرز ومختلف الأشجار الحرشية شمالًا وجنوبًا، واستأنس بكروم التين والزيتون ومنازل القرية شرقًا، فأجدُ في كلِّ جانب من جوانبها انعكاسًا يذكرني بجبالنا، واسمع في زقزقة العصافير صدى بيارتنا في غزة.  فوجدت بها حلمًا وملجأً اعتكف بها وسط حديقة غنّاء تذكرني بفلسطين التي عشتها أيام البيارات في غزة وكروم الزيتون في عين عريك وبساتين أريحا أيام الخير قبل أوسلو.  في الحسينيات وفي الطبيعة المذهلة أعيش لحظات مسحورة تعيدني لنمط حياة نشأت عليه في فلسطين واندثر فكانت اللمحة الأخيرة قبل أن تختفي الجبال وتندثر الأحلام.

اشتُق اسم الجمع "الحسينيات" من الجذر الثلاثي"ح س ن" نظرًا لانتشار أحياءها غرب جبل الأقرع ولتعدد مواقع حُسنها، والتي تشمل عيون المياه وأحراش البلوط والسنديان والصنوبريات والأرز وكروم التين والعنب والزيتون. يعيد كل فجر بضوءه المميز وظلاله البديعة تشكيل الحسينيات لتصبح لوحة فنية تنبض بالحياة. فتدهشنا الحسينيات بجمالها الآخّاذ حيث تجتمع عناصر الإبداع الرباني وعبقرية الإنسان في إطارٍ تتقابل به وتتعدد مواقع الجمال في لوحة أحسن الخالق في رسمها وتلوينها لتصبح جولتي اليومية في كرومها ساعة صفاء وخشوع وشكر، أكرر أثناءه "سبحان الله". فيا لروعة المكان!

لا أتجول وحدي على أطراف قريتي الحالمة، بل سبقتني وما زالت تسكنني مجموعة هائلة من اللوحات التشكيلية الرومانسيه الإنجليزية والفرنسية، التي استقرت في عمق أعماقي مع قصائد عظماء الشعر الفرنسي والإنجليزي، وردد صداها عظماء الموسيقيين. وعبر المسافات انتقلت ثقافة التمتع بالطبيعه لتصبح جزءًا من إرثي من أسرتي التي عشقت الطبيعه وغرست في هذا الشغف المتوارث عبر العصور كما شكلته جماليات الأدب والفن العثماني والإنجليزي والفرنسي. ومع مرورِ الزمنِ تبيّن دورُ والدي في تكوين شخصيتي. جميع ما حظيتُ به من موهبةٍ من رسمٍ وكتابةٍ بالرغم من صقلها بالتعليم والمران –هو ميراثي من والدي الحميدي... فنظرة الحميديين للحياة كانت نظرة تأملية جمالية، تجدُ خيرُ تعبيرٍ لها في فن التصوير التركي والفارسي، حيث "يُمثّل" الرجل المثالي في خلوةٍ تحفُّ بها الطبيعة الخلابة وهو يحملُ كتابًا في يدٍّ ووردةٍ في الأخرى يشم أريجها.

في مساري اليومي بالطبيعة ألمس بصمة الخالق تتجدد في كل خطوة. ويتجلى جمال الطبيعة في الحسينيات لوحة فنيه تتغيّر وتتجدّد تفاصيلها كل صباح، في كل نظرة ألحظ تقلّب ألوان أشجارها وسماها وتختلف تشكيلتها يومًا بعد يوم مواكبةً لحركة الأرض حول الشمس مُسجلةً في قالبٍ إبداعي جمال الكون، فتتغيّر المشاهد وفقًا لتواثب الظلال واختلاف حدّة الضوء وانكساراته مع تقلّب الفصول وتعاقب الأيام.

تحف التحديات مشواري اليومي فتارة أتسلق الجبال شاهقة الارتفاع، وتارة أسير بحذرٍ منحدرًا في وديان سحيقة العمق متّبعًا الدروب الترابية على أطراف غابات البلوط وأحواش الصنوبريات التي تحيط بكروم التين والزيتون، تتربع على صهوة الجبل قريتنا الوديعة ومآذنها البهية وما أشبه الدروب الوعرة والطرق المُعبّدة ببرواز يحيط بحواف لوحة فنية فيبرزها لتصبح تبلوه تشكيلي ولحظة مسحورة، فأتنقل وأتوقف هنا وهناك لأطيل النظر وأدقّق في تفاصيل جمالها أحاورها في نظرةٍ تأمليه محتارًا أيّ زاوية هي أجملها مستعينًا  ببؤرة عدسة الكاميرة لأختار أفضلها… وأطيل التوقّف والتأمل، ومع كل شروق شمس أتبين زاوية جديدة، وفي كل غروب يتراءى جمال خلّاب. تارة تلتفح غلالة من الضباب الزيتون والبلوط والتين والصنوبريات، وتارة تبرز نقية مبهرة تحت سماء زرقاء… وهكذا تمر الأيام وأنا أتفرس ملامح لوحة يعيد الخالق المبدع حبكة ألوانها وأشكالها وفي نورها وظلها... وتمر الأيام وأنا أحيا في لوحة فنيه ولا في الخيال.

ويراودني الحنين إلى موطني كشريط ذكريات يعيدني إلى بلادي، فتترائى أمامي ساطاف وبيت ثول وساريس ولفتا وقالونيا وكل قرى غرب القدس المهجرة.

نختلس النظر إلى قرى فلسطين المهجرة قبل النكبة في بعض ملامح قرية الحسينيات، والتي تشبه تضاريسها الطبيعية وكرومها وأحراش البلوط والصنوبر والقيقب حول أطرافها قرى بلادي التي طمس المغتصبون معالمها تحت غطاء كثيب من الأحراش الصنوبرية بعد أن دمّروا القرى وهجّروا السكان... هنا نشاهد جمال بلادنا في حِلتها الطبيعية، وقبل التزييف الصهيوني لمعالمها وتحويلها إلى غابات أوروبية الطابع… فنرى كروم الزيتون تعتلي السلاسل الحجريّة ملتفة حول سفوح الجبال تعلو فوقها بيوت القرية.

يسود الإحساس بالتوتر فلسطين والأمة العربية قاطبة، ونتابع بقلقٍ وحزنٍ وهلعٍ أهوال القصف الإسرائيلي والدمار والمجازر الجماعية في غزة، وطولكرم وجنين، ويثير من حنقنا تألب الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة الدول الأوروبية علينا، تسفر عن كراهية وازدراء دفين يحط من كرامتنا ويجردنا من إنسانيتنا.

فلقد طمس الصهاينه معالم الثقافة الفلسطينية وجغرافيتها، وهنا في الحسينيات نتبينها في أجمل حِلة فتنتشر أحراش البلوط والصنوبر والأرز على مرمى البصر، وتنتظم بينها كروم التين والزيتون والعنب، تحيط بأطرافها اشجار المشمش والكرز والخوخ والبرقوق والكمثرى والتفاح بمختلف أنواعهم، تخطط حوافهم الدروب الجبلية الوعرة عبر أشجار حرشية تمر عبر حقول وسلاسل حجرية، تكتنز بتفاصيل جمالية لا تمل من متابعتها، ترتقي في الجولة اليومية لتصبح قصيدة شعرية ولوحة فنية تنبض بالحياة، تتغير ملامحها يوميا مع تقلب الفصول ومع مرور الزمن.

الحجر يحن على الزرع مقولة فلسطينية قديمة يذكرني بها مشواري بين الحقول، فأتابع الاستعدادات لاستقبال الخريف والمطر في الحسينيات، وكم تذكّرنا أكوام الحجارة والطمي التي تحيط بجذوع التين والزيتون ومختلف اللوزيات بما عهدناه قبل أن تندثر الجبال من فن الزراعة التي مارسها أجدادنا الأدوميين والأنباط، والتي نجد آثارها بـ "تليلات العنب" في مدن النقب على خط طريق البخور من مكة إلى غزة هاشم، والتي ذاع صيتها كرحلة الشتاء! وتطلق بعض القبائل السبعاوية على هذه التلال من الحجارة والطمي والتي كانت تحيط بجذوع أشجار العنب والتين والزيتون والمشمش والبرقوق، فتذكرني "رجوم الكروم " بكروم جبل الخليل وحقول مدن النقب ضاربة القدم في كروم وحدائق "عبدة" و"سبيطة" المندثرة. هذه التليلات هي عبارة عن أكوام مخروطيّة من التراب الممزوج بقطع صخرية، يتراوح ارتفاعها نحو نصف متر، ويكون بعضها مُسوَّر بالحجارة، تنتظم في خطوط مستقيمة لمئات الأمتار، في المعجم العربيّ الزراعيّ القديم تُسمّى صفوف الأشجار والكروم بـ"السِكَك"

وفي الخريف تردد "سروة التين" فجرًا في الحسينيات صدى مشوارنا الصباحي في الأيام الخوالي على شاطيء غزة جنوبًا إلى "عجلين حيث كان يفترش أصحاب كروم التين والعنب جوانب الطريق البحري على مداخل الكروم يبيعون الثمار، وقد اكتست بحبيبات الندى تبرق مع شعاع الشروق. في الحسينيات والتي ترتفع حوالي ألف متر عن سطح البحر تحيط بكروم العنب والتين والزيتون سلاسل حجرية جميلة كالتي نعرفها في بلادنا، فتستأثر بانتباهنا مداخلها بين السلاسل، وتتعدد أشكالها، ويبهجني رؤية أصحابها يحملون السلال ويختفون بداخلها في الصباح الباكر لقطف التين!

يدهشنا الربيع ففي لحظة سحرية وما بين لحظة وضحاها تصحو الأشجار والزهور من سبات الشتاء، فإذا الحنّون الأحمر يتماوج بين الأعشاب، وإذا الاوراق والبراعم قد بزغت وفي خلال ساعات اكتست حِلة الربيع الخضراء… وما بين عبق التراب النديّ وأريج نوار الكرز والزهور البرية تغدو الحسينيات قطعة من الفردوس. في الحرّ والقرّ، وفي كل صباح ومساء تتربع الحسينيات قمم الجبال، فوق السحاب في الضباب والريح والمطر، وتزهو بكروم العنب والتين والزيتون، وهنا وهناك تتلاعب أوراق المشمش الذهبية، تنذرنا بمرور الزمن.

نتظاهر أن الحياة عادية لكننا ننزف بالداخل ونتظاهر أننا لا نتألم، وفجأة في منتصف الليل تجد نفسك في كابوسهم وتصحي في حالة فزع.

يقول المثل: أسال عن الجار قبل الدار. شاءت الأقدار أن اختار منطقه الحسينيات، وأن اسكن بين آل فريحات الأكابر الذين أصبحوا أهلي وخلاني في الحسينيات، وفي خلال عام من استقراري لم تعدْ سحنتي تُميزني عن الآخرين، فقد ذابت ملامح وجهي في طوبوغرافية الوجوه المألوفة في البلدة الحالمة. بعد عام بين ظهرانيهم، وأصبحتُ أنتمي دون أدنى محاولة للانتماءِ. أمشي فأرى من حولي وجوهًا أعرفُها وتعرُفني، ففي الحسينيات أصبح هناك أناس هم أهلي وجيراني، فلا أكون أبدًا وحيدًا، ويكفي تبادل تحية "صباح الخير"، أو "مساء الخير" ليتبدد شعوري بالوحشة ولأبَرأ من هواجسي.

وهكذا  تمر الأيام في القدس كما في الحسينيات، أتقوقع على ذاتي، أعمل في صمت مطبق وبيت مغلق، سكون ظاهري تعج بباطنه الحياة بلا كلل، وفي حركة مستمرة وانتاجٍ غزير، فتجدني تارة سارحًا بين المراجع منهمكًا في صياغة أبحاثي الأكاديمية ومقالاتي الثقافية، وتارة أخرى غارقًا في مرسمي في القدس بين ألواني الزيتية، استلهمها نورًا وظلال... لا أغادر البيت سوى لمتابعة جولاتي الميدانية بالريف الفلسطيني تارة، وأجدد علاقتي مع الطبيعة تارةً أخرى،  ثم أعود عاشقًا أتامل معالم قدسنا الجميل وأبثّ الشوق فيها، واستجلي معالمها لتفيض في أعمالي الفنية والأدبية.

على أطراف غابات البلوط والصنوبر والأرز والسنديان وجدتُ السعادةَ والطمأنينةَ...  وتتكرر انعكاسات نفسي في مختلف الصور ... فلا ألهثُ بحثًا عنها. فهنا تحيط بي رموزًا لا حصر لها، فلقد بنيت بيتًا بسيطًا بحديقة تشبه حديقة بيتنا بالقدس يواجه الشرق تمامًا يستقبل شروق الشمس كل صباح، ونتابع من شرفته أوجه القمر وصولًا إلى البدر، فتثيرُ الذكرياتُ الشخصيةُ المرتبطةُ بمدينتي وبتاريخي كمقدسي ذي جذورٍ واضحة. إنّ العزلة والوحدة تلعب دورًا مهمًا في تشكيل عملية الإبداع، فحياة الفنان هي بطبيعة الحال معاناة وجودية وصراع مستمر، والانعزال للمحافظة على ظروف عملية الإبداع التأملية وإجراءات التفكير والتعبير والتي أشبّهها بالشرنقة التي تغلف الفراشة قبل انطلاقها!

وتستمر الحياة وتتوالى الاحتفالات بالعيد مع الأصدقاء في الحسينيات في جو يعيد إلى الذاكرة ايام الخير في البيارة في غزة، وأقضي عيدًا سعيدًا مع عايدة في الحسينيات بعيدًا عن القدس، وعن الذكريات والحزن والحنين للأيام الخوالي عندما كان لنا أهل في فلسطين، ونترحم على  أيام زمان عندما كان العيد في غزة قبل أن يتوفى أعمامي، والعيد بالقدس قبل أن يرحل اجدادي وأولاد عمي وخالاتي وأخوالي، وعندما أصبحنا ولسنين نقضي أيام العيد بعيدًا عن القدس مع والدتي وشقيقي وأسرته وابن عم والدتي وأسرته لسنين في حيفا، حين لم يبق أحد… خوفًا من ان لا يطرق الباب أحدًا بعد أن خلت القدس من أهلنا… الله يرحمهم جميعًا.

والحمدالله دائمًا وأبدًا أنه رزقني بابنة حنونة كل الحنيّة الموجودة في العالم، ومُحبّة لمن حولها، وعطوفة على الجميع، هي نعمة من آلله تعالى.

أعيشُ في برجي العاجي في القدس بين أبحاثي الأكاديمية والميدانية وفنية... أتنقل بين اللون والكلمة بين الرسم والمقالة... أرسم طورًا وانهمك في الكتابة طورًا آخر مُتنقلًا بين الاثنين، وعندما تنضب الكلمة وتتلاشى الألوان، أغادر البيت وأعود إلى الارض وفقًا لمتطلبات التقويم الزراعي، وأسافر لأتوه عن نفسي في بيارتي في الحسينيات، والتي تعتمد أشجارها على بئر تجميع مياه الأمطار، وأعيدُ تكوين ذاتي وسط الطبيعه بعيدًا عن ضجيج المدينة والوضع السياسي المتردي، هنا أتجوّل في بقاعٍ فريدة لزيارة القلاع والمساجد والقصور والآثار من العصور الماضية وسط الطبيعة الخلابة... فكم أعشق التاريخ والطبيعة والجمال؟! والأمر سيان في الأردن كما اليابان وتركيا والنمسا والنرويج وسويسرا وفرنسا وإيطاليا... فلا أجمل من الغربة الطوعية ولا أعظم من لوعة الحنين.