
عائدٌ من غزّة إلى غزة (الرحلة الثالثة)

أكتبُ هذه الكلمات بعدما عدت بحمد الله إلى الأردن بعد مهمّة طبية في غزة استمرت لمدة ٥٠ يوماً، أكرمني الله وشرفني بها للمرة الثالثة في هذه الحرب بأن استخدمني في التخفيف عن أهلها المستضعفين ، واستعملني في سدّ ثغرٍ من ثغور الإسلام بتضميد جراح أهلها المكلومين، وقد قمت بعون الله بإجراء ٨٥ عملية جراحية على عدة مستويات من التعقيد لمرضى أورام الجهاز الهضمي في مستشفيات غزة شمالها ووسطها وجنوبها وتعاملنا أيضاً مع عدد كبير من الإصابات خلال الأسبوع الماضي منذ أن خرق الاحتلال الهدنة (وهذا هو عهدهم) أغلبها للنساء والأطفال. يمتدُّ طريق العودة من غزة المحاصرة الجائعة الذبيحة إلى بيتي في عمّان مسافة ٢٦٠ كم، هي مسافة تعتبر قريبة جداً في تعداد مسافات السفر ولكنها بعيدة جداً جداً جداً في كافّة الأمور الأخرى والتفاصيل، استغرقنا في رحلة العودة أكثر من ١٤ ساعة من السفر المتواصل عن طريق معبر كرم أبو سالم جنوب غرب غزة إلى جسر الملك الحسين ومن ثمّ إلى عمّان. تخلّلت هذه الساعات الكثير الكثير من المتناقضات التي ما انفكّ عقلي المحدود عن التفكّر بها وتحليلها، وفي نفس الوقت تعيش نفسك البشرية الضعيفة كمية مشاعر متناقضة لا يمكن وصفها أو تحمّل عيشها في نفس الوقت واللّحظة، مما يجعل هذه السّويعات ثقيلة جداً وتتمنى أنك لم تعشها أبداً.. حتى تصل إلى مرحلة من الإرهاق والتعب النفسي فيتوقف عقلك عن التفكير والتحليل والمقارنة وتتوقف نفسك عن المشاعر والأحاسيس وتفوّض أمرك لله فيما وصلنا إليه وفيما أصاب أمتنا من ضعف وذلّ وهوان. شعورك بالفخر بأن الله استعملك في هذا المقام العظيم يناقضه شعورك بالذلّ والهوان وأنت تطلب التنسيق تلو التنسيق من أعدائك الّذين يحاصرون ويقتلون إخوانك على مدار الساعة. وشعورك بالنّصرة لأهل غزة المستضعفين يناقضه شعورك بالخذلان لهم وأنت تتركهم لتنجوَ بنفسك في ظل حرب الإبادة المستمرة بحقهم. وشعورك بالحزن وأنت تودع إخوتك وأحبتك في غزة يناقضه شعورك بالفرح وأنت تلقى عائلتك وأحبتك في عمّان. وشعورك بالألم والقهر على ما شهدته من عذابات أطفال ونساء غزة نتيجة القصف العشوائي الهمجي يناقضه شعورك بالحنان وانت تحتضن أبنائك وترجو من الله ان يحفظهم ولا يُريك فيهم مكروها أبدا . وشعورك بالخوف من القصف الصهيوني المجرم العشوائي للمستشفيات والمراكز الآمنة حتى للمنظمات الدولية، يناقضه شعورك بالأمان في لحظة وصولك إلى بلدك الأردن. وشعورك بسموّ مهنة الطب وعظمتها وأنت تمارسها بدون مقابل في إنقاذ حياة المستضعفين في غزة يناقضه شعورك في قصور هذه المهنة وأنت تمارسها مقابل مادي خارج غزة. كل هذه المشاعر والأحاسيس وغيرها من المتناقضات تجعلك في حالة انفصام وعذاب نفسي يستمر معك ويدفعك للتفكير والتخطيط مجدّداً للعودة إلى غزة في أسرع وقت. وعلى المستوى الآخر من المتناقضات التي تعيشها في هذه الرحلة هو مظاهر الدمار والتشريد والنزوح والمخيمات والجوع والعطش وصور الاطفال الحفاة في الشوارع وقد تم تدمير مدارسهم ومساجدهم لسرقة مستقبلهم وتدمير البنية التحتية من شوارع وصرف صحي وفي غياب كامل للكهرباء والماء ومظاهر المدنية الحديثة في كافة أرجاء القطاع لجعل الحياة مستحيلة في هذا المكان ، وفي المقابل و من اللحظة التي تغادر منها بوابة السجن الكبيرة في معبر كرم أبو سالم مروراً بالأراضي المحتلة ووصولاً إلى عمّان تنتشر مظاهر الترف والمطاعم والكافيهات المليئة بالمتخاذلين وفي نفس الوقت المساجد الفخمة المضيئة المليئة بالمصلين ومظاهر المدنية المزيفة المختبئة خلف أقنعة الخذلان والتآمر والتبعية للغرب المجرم الذي لا يعترف بحق الفلسطيني في الحياة والحرية، يتوقف العقل مراراً لإيجاد أجوبة عن هذه التناقضات ويقف عاجزاً عن تفسير هذا الظلم والخذلان سوى ما ذكره الله في القرآن عن المخلّفين من الأعراب الذين نحن على شاكلتهم (… شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) وما ذكره نبيّنا في حديثه (...ولكنكم غثاء …. وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت). اللّهم في هذه الأيام والليالي الفضيلة من شهر رمضان نسألك باسمك الأعظم أن تطفئ نار هذه الحرب وأن تحقن دماء أهلنا في غزة وأن تنصرهم بنا يا الله وأن تهيّئ لهذه الامة من أمرها رشدا وخيراً يُعزّ فيه أهل طاعتك ويُذلّ فيه أهل معصيتك وأن تجبر أهلنا في غزة جبراً يليق بكرمك يا كريم، يا جبّار.. ونسألك يا الله ان تتقبل اعمالنا خالصة لوجهك الكريم وان ترزقنا العودة القريبة إلى تلك الارض الطاهرة لنكون عونا لهم وان تستخدمنا في خدمة دينك وعبادك المستضعفين *ملاحظة : الصورة وانا اشرب الماء قبل اذان الفجر اثناء إنقاذ امرأة خمسينية تعرض بيتها للقصف الهمجي وكانت تعاني من نزيف حاد في بطنها نتيجة تهتك الطحال .. وكانت هذه آخر عملية لي قبل سويعات من الانطلاق في رحلة العودة