مدينة الزرقاء: سيرَة فشل

الرابط المختصر

لم تشهد مدينة أردنية التسارع العمراني والديموغرافي الذي شهدته مدينة الزرقاء (20 كيلومتراً شمال شرقي عمّان)، التي تأسست في العام 1903. كانت يومها قرية صغيرة تسكنها 66 عائلة من أصول شيشانية، فأصبحت في تسعينيات القرن الماضي مدينة مليونية. وها هي، بعد أن كانت تتكون من بضعة بيوت ضائعة على مساحة لا تتجاوز 60 كيلومتراً مربعاً، تعج اليوم بمئات الآلاف منها، وتزيد يومياً.
حتى أربعينيات القرن الماضي، حافظت المدينة على نموّها الطبيعي، فبقي عدد سكانها يلامس الألف نسمة، كما يقول عبد الرحمن منيف في روايته «سيرَة مدينة». وكانت أغلبيتهم من العاملين في سكة حديد الحجاز التي تأسست عام 1900، وبعضهم من العاملين في الزراعة.
اليوم، فحسب الإحصائيات الرسمية، يشكل سكان المدينة ما نسبته 15.7 في المئة من عدد سكان الأردن البالغ عددهم وفق أرجح الإحصائيات، ستة ملايين نسمة. حسب الإحصائيات، فالكثافة السكانية في المدينة تبلغ 205 أشخاص لكل كيلومتر مربع، في بلد يبلغ معدل الكثافة السكانية فيه 60 شخصاً لكل كيلومتر مربع.

المياه أولاً
التسارع العمراني والديموغرافي لم يأت عبثاً. في البداية، استقطبت وفرة المياه التجمعات البشرية لتأسيس المدينة التي يشقها نهر الزرقاء، ثالث أكبر مجرى مائي في جنوب بلاد الشام بعد نهري الأردن واليرموك.
هو النهر الذي تحدث عنه منيف في «سيرَة مدينة»، فقال «السمك في هذا النهر أمواج وراء أمواج. قد يكون صغيراً، لكن الكبير ليس قليلاً. وفي محاولة لأن يتحول الصيادون الصغار إلى صيادين كبار، كانوا يستعملون في الصيد أنواعاً مخففة من الديناميت». كان نهراً قبل أن ينخفض منسوبه تدريجياً حتى أضحى مهددا بالجفاف الآن، وكانت المدينة التي اشتق اسمها من مقطعين في اللغة الأكادية هما (زار) وتعني مياه و(كي)، وتعني منطقة، تفيض مياهاً عن حاجة قاطنيها قبل أن يفيض البشر وتصبح مياهها عاجزة عن تلبية الزيادة المطّردة.

الجيش ثانياً
اختيرت الزرقاء مقراً لمعسكرات الجيش الذي تأسس العام 1921، طردياً كلما زاد قوام الجيش، زاد عدد سكان المدينة، خاصة بعد أن جلب العسكر عائلاتهم للإقامة في إسكانات قرب المعسكرات، أو في بيوت الطين التي بنيت أو تم استئجارها في البلدة الناشئة، التي أطلق عليها حينها «مدينة الجيش».
أول الوافدين بعد المستوطنين الأوائل من الشيشان كانوا قبيلة بني حسن التي استقرت في المدينة مع استقرار المعسكرات، والتي أصبحت في زمن قياسي تشكل الغالبية العظمى من السكان.
حمل الجيش على عاتقه مهمة تنمية المدينة حيث أوكلت اليه مهمة إنشاء المدارس والمراكز الطبية التي كان يشرف عليها وتقدم خدماتها لعائلات العسكر والسكان المدنيين.
غير أن يد الجيش لم تعبث بالمدينة ولم تغيّر نمطها القائم على الزراعة أساساً، فبقيت معسكرات الجيش بعيدة ومعزولة عن التجمعات السكانية.
تصميم الزرقاء، تلك الفترة، يشبه نيويورك وبعض المدن الأميركية (بحسب منيف!)، حيث الشوارع تتعامد وتتقاطع بخطوط مستقيمة. سكة الحديد، من ناحية الجنوب، أقصى مكان يمكن أن يصله الإنسان، لأن خلفها مباشرة معسكرات «قوات البادية»، سكة الحديد التي كانت بعيدة عن السكان تمتد اليوم بين البيوت، بل تمتد البيوت أبعد منها في جميع الاتجاهات بعد أن أزاحت معسكرات الجيش إلى أبعد مما كانت عليه.

اللجوء والنزوح ثالثاً
كان للمدينة نصيب متواضع من موجة اللجوء الفلسطيني الذي أعقب نكبة 1948، ولكنه لم يؤثر على الواقع العمراني والديموغرافي للمدينة مقارنة بالأثر الذي أحدثه نصيبها من موجة النزوح الفلسطيني بعد حرب 1967، هو العام الفارق في تاريخ المدينة، لجهة الطفرة السكانية التي فرضت زيادة في الطلب على المسكن والخدمات العامة كالتعليم والصحة والعمل، فشهدت الزرقاء نهوضاً عمرانياً ومشاريع إسكان ضخمة.
حدث تنوع في الأنشطة الاقتصادية وتعدد في الفئات الاجتماعية والأنماط الثقافية، وأصبحت كل التجمعات البشرية السابقة للجوء أقليات مقارنة بالوافدين الجدد. وذابت التسميات الرسمية الحديثة لأحياء المدينة، كحي معصوم، وحي الأمير محمد، وحي الحسين، وحي رمزي، أمام التسميات الدارجة التي تغلب عليها الانتماءات الجهوية والعشائرية لتصبح: أحياء الشيشان، والمشاقبة، والزواهرة، والسبعاوية، والمسيحية، والمعانية.. الخ.
سقط فجأة الطراز الهندسي المشابه لمدينة نيويورك. لم تعد الشوارع الجديدة تتعامد وتتقاطع بخطوط مستقيمة. بدأ البناء العشوائي والتوسع غير المنتظم على حساب الأراضي الزراعية التي تناقصت رويداً حتى باتت أثراً بعد عين. انقرضت البيارات والبساتين في المدينة، وحل مكانها المصانع والمشاغل الحرفية، لتصبح الزرقاء في وقت قياسي العاصمة الصناعية للأردن مع ما يصاحب الصناعة من تلوث وضوضاء وفوضى.
الزيادة السكانية الطارئة ضربت المدينة مجدداً في العام 1991، بفعل النزوح القسري للفلسطينيين في أعقاب حرب الخليج الأولى، لتدخل المدينة بفعلها نادي المدن المليونية.

جذب وطرد
العوامل التي جذبت التجمعات البشرية لاستيطان الزرقاء، زالت وحلت محلها عوامل النفور، النهر جف وما تبقى منه أصبح ملوثاً بمخلفات المصانع، والمياه لم تعد تكفي السكان الذين يعطشون كل صيف. المدينة الهادئة التي كان يفر إليها سكان عمّان سابقاً بحثاً عن الهواء النقي والخضرة، هي الآن مدينة الضجيج والصحراء المجردة من الغطاء النباتي، مدينة التلوث بامتياز ومصدراً رئيسياً له بسبب الكميات الضخمة من الدخان الناجم عن تسخين البترول الخام في مصفاة البترول الأردنية الوحيدة الجاثمة فيها. سابقاً فر الناس الى الزرقاء، واليوم طموحهم الفرار منها.

السفير