الفرجة ببلاش واللي إجا يخبر إللي ماجاش

"الرجل المناسب في المكان المناسب"، عبارة قديمة تقليدية ديكورية وذات نزعة ذكورية فقدت قيمتها، إذ غدت قرباناً لكل من تولى أمراً هو غير أهل له.

 استقراء الخلفيات العلمية والمعرفية والخبرات العملية لعدد كبير ممن يديرون شؤون بلاد وعباد في دول السبحانية والبركة وما أكثرها في هذا العالم؛ يبعث الفزع في كل نفسٍ مطمئنة ويعمق إحباط الذين يناضلون ليجدوا فسحة أمل في تغيير وتطوير ولو في المستقبل البعيد.

 المتابع لآليات اختيار وإسناد الوظائف والأعمال في العديد من القطاعات في هذه الدول ذات الحساسية المفرطة اتجاه النظام والتنظيم؛ يلاحظ أن ثمة سرك إداري يسود المشهد فيها، فترى الطبيب مثلاً مسؤولاً عن ملف التعليم، والمهندس عن ملف التنمية ومكافحة الفقر والبطالة، ومن لم يصنف يوماً على أنه مثقف أو مبدع أو فنان يدير ملف الثقافة والفن والإبداع، ويتولى ملف الشباب كهل محافظ، بينما ضابط الشرطة أو الاستخبارات السابق يقود ملف العدل وحقوق الإنسان وربما المرأة والطفل فوق البيعة، أما المقاول فمثل "الزبدية الصيني أينما نقرته يَرِن".

 هذا العبث والاستخفاف بمصالح الشعوب وإدارة شؤونها مرجعه طغيان اعتبارات وحسابات شخصية محضة وأخرى ذات بعد ديني أو عرقي أو طائفي أو جهوي، ليبقى القاسم المشترك بينها جميعاً هو تغلغل الشخصنة وغياب الحاكمية الرشيدة التي يبرع المعنيون في هذه الدول في الحديث عنها وينفقون الكثير من المال والوقت لإعداد الاستراتيجيات الخاصة بها التي لها دائماً مكاناً محفوظاً على الرف تستلقي فيه لتغط في سباتها العميق متدثرةً بأكوام من الغبار وخيوط العنكبوت حتى موعد تشييعها إلى مأواها الأخير على يد أعضاء لجنة الإتلاف.

 حينما استقالت حكومة هولندا قبل شهرين بسبب خطأ إداري أدى إلى وقف إعانات الرعاية للأطفال عن الأسر المستحقة؛ وظهر رئيسها معتذراً وباكياً لفرط إحساسه بالذنب والمسؤولية، وفي الفترة نفسها تقريباً استقال قائد أركان الجيش الإسباني ومعه مجموعة من القادة العسكريين ووضعوا أنفسهم رهن التحقيق الذي فتحته وزارة الدفاع لمحاولتهم التعجيل بدورهم لأخذ لقاح كورونا في المرحلة الأولى التي خصصت حصراً للطواقم الطبية وكبار السن المقيمين في دور الرعاية، والأبرز استقالة وزير بريطاني قبل ثلاث سنوات على الملأ أمام مجلس العموم بسبب تأخره عن موعد الجلسة 5 دقائق؛ عقد المتابعون في دول السبحانية والبركة مقارنةً بين النظام والبيئة والثقافة والمنظومة القيمية التي أفضت إلى هكذا مشهد راقي يعكس الشفافية الحقة ونقد الذات وتغليب المصلحة الوطنية، وبين واقع أليم وقديم يسود دول لا يؤرق المعنيين فيها الخطأ وإنما من كشفه ولا يقض مضجعهم انتهاك الحقوق والحريات وإنما تزعجهم أنّات واستغاثات ضحاياها وأصوات المدافعين عنها.

 في دول السبحانية والبركة هناك من لا يمكنه تصديق أن الذود عن الحق وإنقاذ ضحايا التمييز أو العنف أو الإضطهاد؛ إنما هو عند الكثيرين غريزة وعقيدة، فتراه مع كل كشف عن خلل أو مخالفة ما؛ ينشغل بالعثور على سبب الكشف والمُكتَشِف وليس كنه المُكتَشَف؛ متلبساً بهاجس أن وراء كل نقد أو فضح مخالفة باعث ذي طابع تآمري وغاية انتقامية ينسجها خياله المسكون بالشباك والدسائس التي تحاك؛ مع رشة بهارات معتادة كريهة الرائحة لا تخطئها أنف كل شريف تجدها لدى عطّاري "سمعة الأوطان... والأجندات الأجنبية...".

 حينما يتزايد ضغط الشارع على بعض هؤلاء إثر تقصير أو تصريح مسيء أو مهين لجموع الناس، فإن المنهجية المشتركة بينهم هي؛ أولاً استهجان الانتقاد، ثم تبرير التقصير أو الخطأ بمنطق "عنزة ولو طارت"، وفي آخر المطاف كلمة اعتذار باهتة مغلفة بتوبيخ من جرحت مشاعرهم أو مست حقوقهم لأنهم من وجهة نظر هؤلاء "قليلو الفهم أو سيّئو النية".

  آخر ما تحتاجه الدول التي ترنو شعوبها إلى حاضر أجمل ومستقبل أفضل هو أسرى الماضي الذين توقفت عقارب ساعاتهم الذهنية عند زمن لم يكن في أثيره سوى موجات تحمل رسالة واحدة من مصدر وحيد جعلته الساحة الفارغة بطل المشهد ورأس الحكمة الأوحد، أما وقد بات العالم بأسره في جيب كل مواطن وفي غرفة معيشته وعلى مكتبه، فإن مكان أشباح الماضي وأصنامه السراديب أو المتاحف أو قد يكون من المفيد الاستثمار فيهم بإقامة سرك تشاهدهم فيه أجيال واعدة تنبهر بحركات وعبارات بهلوانية لم تغزو منهم خيال ولم تخطر لهم على بال، والفرجة ببلاش واللي إجا يخبر إللي ماجاش.

 

أضف تعليقك