الأردن دولة وليس برج حماية لإسرائيل
قد تستطيع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فرض خطوات إسرائيلية على الأرض، مثل ضم القدس والجولان، وحتى أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ولكن هذه الخطوات لن تتحول إلى واقع سياسي، يكرّس هيمنة إسرائيل ويدمجها في المنطقة، من دون استسلام فلسطيني وقبول عربي علني، ولكن ذلك كله يحتاج إلى تعاون أردني رسمي في إطباق الحصار على الفلسطينيين، واحتواء تداعيات دفعهم إلى التخلي عن حقوقهم التاريخية.
لذا، نرى الضغط المتواصل على الأردن لقبول "صفقة القرن"، حتى قبل الإعلان الرسمي عنها، بدءاً بإجباره على المشاركة في ورشة المنامة الاقتصادية، لضخ أموال ومشاريع لتشريع الاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين التاريخية، وتقليص الأردن من دولة وشعب إلى مجرد حيز جغرافي لحراسة القلعة الإسرائيلية وحمايتها.
ما لم تستوعبه إدارة ترامب وكل دوائر المؤسسة الأميركية، أن هناك شعباً يريد الحفاظ على دولته، وأن لدى الأردنيين حساسية عميقة حيال أي مشروعٍ لا يرى في بلدهم سوى كينونة وظيفية تصدّ الصدمات عن الكيان الصهيوني، وتحوّل نفسها إلى جسر برّي جغرافي وثقافي وسياسي للتطبيع مع العالم العربي ودول المنطقة؛ فعلى الرغم من التسارع في التطبيع بين إسرائيل ودول عربية عديدة، وخصوصاً دول الخليج النفطية، فإن موقع الأردن والاندماج الكبير بين الشعبين، الأردني والفلسطيني، يجعل المملكة الهدف الأكبر للضغوط الأميركية وللقبول بما هو أبعد من معاهدة وادي عربة ومشاريع التطبيع الاقتصادي الاستراتيجية، فالمطلوب من الجميع، من قيادة ومؤسسات ومجتمع وأفراد، الانخراط في دور وظيفي باسم الازدهار الاقتصادي الموعود.
لذا نرى أن كل المؤسسة الأميركية، حتى تلك التي لديها تحفّظات حول "صفقة" تصفية الحقوق الفلسطينية من دون غطاء "عملية سلام" أو اتفاقيات إسرائيلية - فلسطينية مجزّأة ومجتزأة،
تدفع الأردن الرسمي باتجاه المشاركة في ورشة المنامة الاقتصادية، فكما كتب أحد أهم عرابي السياسة الأميركية الشرق أوسطية، دينيس روس في "فورين بوليسي" أخيراً، إن ورشة المنامة تستطيع التمهيد لتنفيذ أفكار صفقة القرن وخطواتها بالتدريج في المستقبل. وأهمية رأي روس يزيد من الضغوط على الأطراف العربية، وبالذات الأردن والفلسطينيين، إذ استعاد تيار الجناح الصهيوني التقليدي في المؤسسة الأميركية نفوذه بعد تعيين أحد تلاميذ روس وأتباعه، ديفيد شينكر، مساعداً لوزير الخارجية، فنرى أن معارضة هذا التيار صفقة القرن قد خفّت في حدّتها وتحول رموزه، وأبرزهم روس، إلى دور الناصح بكيفية تطويرها وتنفيذها، فهناك توافق أميركي على ورشة المنامة أن تكون نقطة انطلاق وارتكاز، إذ إن التطبيع الاقتصادي، وتعميق التحالف الإسرائيلي العربي ليشمل القطاع الخاص؛ ضروريان لتنفيذ أي خطة، إن كانت تحت مسمى صفقة القرن أو "عملية السلام" أو ما شابه. أي إن القيادة الأردنية محاصرة أكثر من الأسابيع الماضية بالضغوط للمشاركة في ورشة المنامة، وخصوصاً أن مقاطعة الفلسطينيين المؤتمر تجعل الوجود الأردني الرسمي ضرورة لعدم فشله، وهذا يجب أن يجعل الأردن الرسمي أكثر صلابة في مواجهة الضغوط، شرط أن يرى في الضغط الشعبي المتنامي مصدر قوة، وليس مصدراً للتهديد للنظام وأجهزته.
كل المقالات التي نشرت في صحف ومراكز أبحاث غربية في الأسابيع الماضية كان لها عنوان واحد تقريباً، وهو أن الملك عبدالله الثاني يخسر، أو خسر، حلفاءه، وتباينت لهجة المقالات والتقارير من ضرورة الحفاظ على استقرار الأردن وحليفاً للولايات المتحدة، إلى القبول الضمني بأن أهميته والملك نفسه يحددهما رضى أميركا بالدرجة الأولى، ودعم السعودية والإمارات اللتين تساهمان في تضييق الخناق على الأردن، بعد أن نصّب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، نفسه رأس حربة ضغط مالي وسياسي لتنفيذ صفقة القرن. وقد أثارت التقارير التي ترجمت، وتم تداولها بشكل واسع في وسائل التواصل بين الأردنيين، مخاوف متجدّدة من أميركا تبعث رسائل تحذيرية وتهديدية من مغبة رفض المشاركة في ورشة البحرين، ما شجع الأصوات التي تنادي بالمشاركة تحت شعار الواقعية السياسية لإعلاء الصوت، ولكن الرد الشعبي بالرفض كان الأقوى والأوضح، إذ نجحت المسيرة التي اتجهت يوم الجمعة تحت شعار "معاً نرفض صفقة القرن" وورشة المنامة، وقد دعا إليها ملتقى الأحزاب القومية واليسارية، وانضمت إليها معظم الحراكات والحركات، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي سارت في تظاهرة منفصلة ظهر الجمعة تحت الشعار نفسه. فالحديث عن "صفقة القرن" وتصريحات فريق ترامب المليئة بالازدراء لحقوق الشعب الفلسطيني، وقرب انعقاد مؤتمر البحرين، بالإضافة إلى غياب وضوح الموقف الرسمي الأردني، أدت إلى توحيد الأحزاب والحراكات السياسية، وإن كان ليس باتفاق رسمي بالموقف والتحرّك للتعبير عن معارضة أي دور أردني في أي شقٍّ اقتصادي أو سياسي للخطة الأميركية، وضم رئيس الوزراء السابق أحمد عبيدات صوته، من خلال التجمع الوطني للتغيير الذي أُسس حديثاً، إلى الدعوة إلى مسيرة الجمعة، في مؤشّرٍ على إجماع التيارات الأردنية على ضرورة المشاركة الشعبية في الضغط على الدولة في مواجهة الضغوط الأميركية.
الملاحظ أن الأجهزة الأمنية لم تحاول منع المسيرة، في اختلافٍ واضح عن سلسلة من التدخلات الأمنية التي أفضت إلى غلق شوارع، والتسبب بأزمة مرورية كبيرة، على مدى عدة أمسيات لمنع وفد من الحراكيين، ولجنة أهالي المعتقلين من الوصول إلى المركز الوطني لحقوق الإنسان لتسليم مذكرة، بأمرٍ من المحافظ الذي برّر إجراءاته بجملة غريبة ومستهجنة: "لا توجد حقوق إنسان بعد انتهاء ساعات الدوام"، ما ساهم في توتير أجواء محتقنة، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الأردن.
المهم الآن كيف تنظر الدولة مع الرفض الشعبي؟ فإذا اعتبرت المواقف الشعبية وموقف النخب السياسية المعارضة تهديداً لها، فهي تخطئ الحسابات، أما إذا اعتبرته داعماً لرفض الملك المعلن لصفقة القرن وترددها في المشاركة في مؤتمر البحرين، فإن ذلك يكون تهدئة تعطي صدقية لتأكيد الأردن موقفه الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني. فالتطورات الداخلية الأردنية في مواقف المعارضة والحركات الشعبية تعتمد على نجاح الدولة بإثبات صدقيتها المتآكلة، فليس من الدقة وصف الوضع بأن الملك واقع بين مطرقة الضغوط الأميركية للموافقة على شروطها وسندان المعارضة الشعبية لتصفية القضية الفلسطينية، وإنما الوصف الأدق للوضع أن استعجال الإدارة الأميركية إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني هو الخطر الاستراتيجي على مفهوم الدولة الأردنية ووجودها. ومِن المهم معرفة من يدافع عن الدولة ومن يريد تقليص الأردن إلى نقطة مراقبة أمنية لحماية المصالح الصهيونية، وهذا يحتاج إلى إطلاق حوار وطني، ومصالحة شعبية عمادها إصلاح سياسي وتغيير جذري في سياسات الظلم الاجتماعي، وباكورتها إطلاق سراح جميع المعتقلين والموقوفين السياسيين.