شبكات الضغط العالي "تفتك" بأهالي العلكومية

عمان - جمانة سليم - اعد هذا التقرير لصالح مشروع مضمون جديد للصحفيين

في منزله الواقع تحت ظلال ابراج الضغط العالي في حي العلكومية جنوب عمان، يحدثك نور الدين مزهر عن معاناته مع سرطان الامعاء والقولون وعن اصابة ابنه الاكبر بسرطان مماثل، وعن مخاوفه من ان تكون الاعراض التي يعاني منها ابنه الاصغر ناجمة هي ايضا عن سرطان.

مزهر ليس خبيرا في الفيزياء او الطب، ولكنه يؤكد جازما ان سبب الامراض التي غزته واسرته هي ابراج الضغط العالي التي تتلوى اسلاكها كالافعى وهي تشق طريقها فوق بيوت الحي الملاصق لمنطقة خريبة السوق.

ويستشهد الرجل الذي خضع لعملية استئصال اورام سرطانية في الامعاء والقولون قبل ست سنوات ويعيش حاليا بامعاء بلاستيكية، بما قاله له طبيبه الذي اخبره بان سبب مرضه هو «الاشعاعات غير المرئية التي تصدر عن بعض الابراج»،

ويشير مزهر بذلك الى الامواج الكهرومغناطيسية التي تطلقها اسلاك ابراج الضغط العالي، والتي لا يزال الجدل قائما بين الخبراء حول حقيقة تسببها بالسرطان وبغيره من الامراض الخطيرة.

ورغم ان «اشعاعات» الابراج، كما يسميها مزهر، غير مرئية بحد ذاتها، الا انه يستشعرها في صوت ازيز الاسلاك الحاد والمتواصل الذي يصفه بانه من الشدة بحيث يحرمه واسرته النوم في الكثير من الليالي.

قبل عامين فوجئ مزهر، كما يقول، باصابة زوجته ميسون محمود عوض بورم في الدماغ شخصه الاطباء على انه «حميد»، وقد تم استئصاله.

.الا ان الصدمة الكبرى، على حد تعبيره، كانت قبل عام عندما اكتشف اصابة ابنه الاكبر يوسف (12 عاما)، بسرطان في الامعاء ما زال يتلقى العلاج منه. والان، يخشى مزهر من ان يكون ابنه الاصغر مصابا بنفس «المرض الخبيث»، كونه يعاني من اعراض مشابهة لتلك التي صاحبت اكتشاف السرطان لدى اخيه الاكبر.

وهو الان بصدد اجراء فحوصات لابنه الثاني لاستجلاء سبب هذه الاعراض.

الدجاجة والبيضة!

بيت مزهر يشكل نموذجا لما يمكن ان تجده في الكثير من البيوت التي تئن تحت ابراج الضغط العالي في حي العلكومية الذي يقطنه اكثر من الفي نسمة. فلا يكاد يخلو بيت في الحي من مصاب بالسرطان، او بمرض نادر يحار امامه الاطباء.

وكما يؤكد الاهالي، فان هذه الامراض لم تكن منتشرة في اوساطهم قبل ظهور ابراج الضغط الكهربائي العالي التي انتصبت بين منازلهم «فجأة» كما النبت الشيطاني.

وفي حين يشير الاهالي بوضوح باصابع الاتهام الى الابراج ويطالبون بازالتها، الا ان شركة الكهرباء الوطنية تؤكد ان الاستجابة لهذا المطلب «مستحيلة».

لا بل ان الشركة ترفض ان يتم تصويرها بوصفها الجاني، وتعتبر نفسها ضحية «لاعتداءات» الاهالي على حرم ابراجها، وتطلب ضمنا ترحيلهم هم. وعلى ما يبدو، فان الجدلية الازلية حول الدجاجة والبيضة تعيد انتاج ذاتها في حي العلكومية: حيث يؤكد السكان انهم كانوا موجودين قبل انشاء الابراج عام 1996، وشركة الكهرباء تؤكد ان الابراج كانت قائمة قبل ان يأتوا ويقيموا منازلهم حولها.

وتتوالى الحكايات

وفيما يستمر الجدل حول من جاء قبل ومن جاء بعد، تتوالى حكايات الامراض على السنة السكان مصحوبة باتهام مباشر للابراج.

ففي بيت غير بعيد عن بيت مزهر، تتحدث منى محمود الرقب عن اكتشاف «غدة سرطانية» في رقبة ابنها قبل ثلاث سنوات. وتقول انه خضع لعملية جراحية لاستئصالها.

ورغم انها لا تعلم يقينا سبب اصابة ابنها بهذا السرطان، الا انها تتهم «الاشعاعات الصادرة عن شبكات الضغط العالي « الملاصقة لمنزلها.

كما تتحدث منى عن معاناتها واسرتها من الازعاج الذي يسببه ازيز الكهرباء في اسلاك الابراج، وكذلك «الصواعق» التي تطلقها خصوصا في الشتاء، ما يعرض حياتهم للخطر بشكل مستمر.

وفي بيت عبد السلام فؤاد المجاور لبيت منى، هناك حكاية اخرى عن اصابة بالسرطان لطفل في السابعة.

يقول عبد السلام ان الاطباء اكتشفوا اصابة ابنه منذ الولادة بسرطان في النخاع الشوكي.

وكما بقية سكان الحي، يشير عبد السلام باصبع الاتهام الى الابراج و»الذبذبات» الصادرة عنها.

وحال الكثير من السكان، يؤكد عبد السلام ان بيته كان موجودا وقائما قبل انشاء الابراج.

وخلال جولتنا في العلكومية، التقينا عائلات يعاني واحد او اكثر من افرادها من مرض فرط شحنات الكهرباء في الدماغ.

واغلب هذه الاسر تُرجع سبب هذه الاصابات الى الابراج التي تلتصق ببيوتهم، واحيانا تتوسط باحاتها.

تقول ام محمد التي فضلت عدم نشر اسمها، ان اثنين من ابنائها يعانيان من «شحنات زائدة» في الدماغ.

وباسى واستكانة، تقول المراة التي تؤكد انها تقيم في الحي منذ العام 1990، اي قبل انشاء الابراج بست سنوات، ان حالة ابنيها في «تدهور مستمر».

وتتوقع «ام محمد» ان السبب وراء اصابة ابنيها بهذه الحالة هو «الشحنات الكهربائية المنبعثة من شبكات الضغط العالي».

اما ريما ابو حرب التي تسكن منزلا لا ينقطع عنه فيضان المجاري بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي سيرة الكثير من منازل الحي، فأن لديها ثلاثة ابناء مصابين بمرض فرط الشحنات الكهربائية في الدماغ. واحدهم كما تقول «فاقد للنطق».

وريما ايضا تشتبه بان سبب مرض ابنها هو قرب منزلها من ابراج الضغط العالي.

وفضلا عن زيادة الشحنات الكهربائية، فان الابناء الثلاثة وامهم واباهم مصابون بامراض جلدية مردها مياه المجاري المستمرة في الفيضان.

صداع وخمول

امر اخر يلفت الانتباه في الحي، وهو شكوى عدد كبير من السكان، ومن فئات عمرية مختلفة، من الصداع المتواصل والخمول دون سبب واضح.

يقول سعيد ابو رياش الذي يسكن منزلا يتوسطه احد الابراج انه يعاني وافراد اسرته من الخمول ومن صداع لا يتوقف حتى مع تناول المسكنات.

ويخشى ابو رياش الذي يقطن في الحي منذ نحو سنة ونصف السنة من ان يصاب احد افراد اسرته بمرض خطير بسبب وجود هذا البرج.

واشار الى انه يمنع اطفاله من اللعب في حديقة المنزل خلال الشتاء، خشية تعرضهم لاحدى الصواعق التي تطلقها الابراج، والتي يقول انها تنزل فجأة مثل «كتلة ملتهبة» تنشر الخوف والذعر.

وتحدثنا جارته فاتن محمد سالم، وهي ام لاربعة اطفال، عن مخاوفها من ان تكون الاعراض التي تلازمها منذ فترة طويلة ناجمة عن اصابتها بمرض خطير.

وتتمثل تلك الاعراض في الصداع وفقدان التوازن والشعور المستمر بالخمول والنعاس وخدر الاطراف.

وتعبر فاتن عن استيائها بسبب الازعاج الناتج من ازيز الكهرباء في اسلاك الابراج القريبة من منزلها والتي تعتقد بانها السبب في ما تعانيه.

وفي عرض يثير الدهشة قصد منه اثبات ان اجواء المنطقة كلها مشبعة بشحنات الكهرباء، قام احد السكان بوضع مفك لفحص الكهرباء على باب منزله، فاضاءت اللمبة الصغيرة داخل المفك. وكرر الامر بان الصقه بخزان المياه، فاضاءت اللمبة ايضا.

عدم يقين

الى الان، لا يزال الجدل قائما بين الخبراء حول حقيقة تسبب ابراج الضغط العالي بالسرطان وبغيره من الامراض الخطيرة. فكما يشير صلاح عباس استشاري امراض الدم والاورام في مركز الحسين للسرطان، فان الدراسات والابحاث العالمية التي اجريت عن تأثير هذه الابراج على صحة الانسان «معظمها لم تثبت حتى الان مدى سلامتها او خطورتها».

ويقول ان بعض الدراسات خلصت الى أن «هناك تأثيرات سلبية وخطيرة يسببها التأثير الكهرومغناطيسي الصادر منها على الخلايا العصبية في جسم الانسان خاصة الشبكات التي تكون قريبة من الاماكن السكنية».

ويضيف ان بعض الدراسات التي اجريت في كندا والنروج على شريحة كبيرة لاشخاص يعيشون في مناطق قريبة من شبكات الضغط العالي اشارت الى أن التأثير الكهرومغناطيسي الصادر عنها قد يسبب سرطان الدم «اللوكيميا» عند الاطفال وسرطان الدماغ عند الكبار الى جانب تأثيرها على الجهاز العصبي.

وفي نفس الوقت، يلفت عباس الى ان «هناك دراسات اخرى اثبتت عدم خطورة هذه الشبكات على صحة الانسان». لكنه يؤكد انه في مجمل الاحوال، فان «جميع الخبراء ينصحون بعدم السكن بالقرب» من هذه الابراج.

ومن ناحية اخرى، اشار عباس الى ان «الاشخاص المصابين بالسرطان ومهما كانت طبيعة المرض لا يمكن معرفة أو تحديد سبب حدوثه، كأن يشخص الطبيب المعالج ان سبب اصابة شخص ما بالسرطان يرجع الى الاشعاعات او الى التدخين او اي عامل اخر».

نفس الامر، اكدته شذا الرمحي استاذة الفيزياء الطبية والنووية في الجامعة الاردنية، والتي قالت ان «الدراسات العلمية لم تثبت حتى الان ان الاشعاعات والذبذبات الكهرومغناطيسية الصادرة من ابراج الضغط العالي تسبب اضرارا او امراضا سرطانية».

لكنها استدركت مؤكدة انه «في نفس الوقت لا توجد تاكيدات علمية تشير الى أن هذه الاشعاعات سليمة ولا تسبب اضرارا لصحة الانسان سواء على المدى القريب او البعيد».

الابراج باقية

من جهتها، أكدت شركة الكهرباء الوطنية انها لا تتحمل اية مسؤولية عن الاضرار التي يتحدث عنها اهالي العلكومية، ونفت بشكل قاطع اية نية لديها لازالة الابراج.

وقال المهندس مجدي سمارة مساعد المدير العام لنقل الشبكات في شركة الكهرباء الوطنية ان ازالة الابراج «امر غير وارد خاصة وان تكلفة الازالة عالية جدا الى جانب تكلفة الانشاء مرة اخرى في الوقت الذي لا توجد هناك مسارات بديلة» لخط نقل الكهرباء المار من حي العلكومية.

ويقوم خط الضغط العالي الذي يمر من الحي بنقل الطاقة الكهربائية من محطة تحويل جنوب عمان إلى محطة تحويل شمال عمان، ومن ثم الى شبكة الربط مع سوريا.

ويعتبر هذا الخط أحد الشرايين الرئيسية للنظام الكهربائي في المملكة.

وكما يوضح سمارة، فان عملية تحديد مسار خطوط الضغط العالي تخضع لاعتبارات صارمة، اهمها عدم مرورها من مناطق اهلة بالسكان.

واكد سمارة انه «في الوقت الذي تم انشاء شبكات الضغط العالي في منطقة العلكومية كانت المنطقة غير مأهولة».

واضاف ان «السكان المتواجدين في المنطقة معظمهم سكنوا فيها بعد انشاء الابراج والدليل هو ان هناك بعض المنازل تلتف جدرانها حول قواعد شبكات الضغط العالي الى جانب ان معظم السكان ليسوا مالكين لقطع الارض وليس لديهم وثائق ملكية للاراضي التي انشأوا عليها منازلهم».

وقال سمارة انه صدر في عام 2000 قانون يمنح المتضررين من وجود شبكات الضغط العالي بالقرب من منازلهم حق الحصول على تعويضات، شريطة ان يقدم المتضرر اعتراضا في مدة اقصاها ثلاث سنوات الى جانب ابراز وثائق تثبت ملكيته للارض بسند تسجيل رسمي. الا انه قال ان «اهالي العلكومية لم يتقدموا باعتراضات كونهم لا يمتلكون اوراقا تثبت ملكيتهم للاراضي كونها اراضي حكومية». واكد المهندس سمارة ان شركة الكهرباء الوطنية «دفعت عشرات الملايين للمتضررين والذين تقدموا باعتراضات من وجود ابراج ضغط عالي بالقرب من منازلهم».

واوضح ان «الضرر لا يعني ضررا جسديا او صحيا وانما ضرر معنوي يرجع الى عدم تقبل اصحاب الملك وجود هذه الابراج بجانب اراضيهم او بيوتهم».

أضف تعليقك