دقّ الحجر.. في عمان فنانون بدرجة صنايعي

الرابط المختصر

محمد ابو عريضة

تم اعداد هذا التقرير لصالح مشروع مضمون جديد باشراف الصحفي لقمان اسكندر

إنهم يصنعون اللوحات التي زيّنت بيوت عمان منذ عقود طويلة، فنانون غير مدرجين في نقابة، وغير معترف بهم كفنانين، وأقصى ما يمكن أن يناله أحدهم من لقب أنه "صنايعي". ولكن زملاء لهم عاشوا في القرون السابقة كانوا يعاملون كنخبة.

"دقيق الحجر" أصبحت مهنة الوافدين بعد أن عزف عنها المواطنون. هذا العزوف الذي بات يقلق "كِبار الصنايعية" في عمان.

وما زاد في بلة طين هذه المهنة ان حجر البناء ظل موجودا منذ القدم واستخدمته شعوب المنطقة بطرق شتى، وتفنن البناة في تزيينه بالنقش عليه الصور والزخارف العديدة، والحروف والكلمات الكثيرة، طرأ على فن استخدامه في البناء خلال السنوات القليلة الماضية، الكثير من المتغيرات على رأسها دخول التكنولوجيا الحديثة على عالم الحجر وتفاصيله مما احدث ثورة في مفاهيم صناعة حجر البناء، فاصبح ما كان يستغرق "دقّيق الحجر" في انجازه ساعات، تقوم به اجهزة النشر والقص والخراطة وخلافها بلحظات، واصبح ما كان منغلقا يصعب التعامل معه، لجهة صعوبة تكوينه او تشكيلة، امرا متاحا بعد دخول الكمبيوتر وبرامجه المتطورة عالم الحجر وفنونه.

قصة "حسرة" أبو أمين سعادة الشيخ الذي تجاوز عمره الثمانين عاما مع عزوف الاردنيين عن هذه المهنة تأخذ طابعا شخصيا، كادت ان تتطيح بالعلاقة الوطيدة بينه وبين ابنه البكر.
لم يتوقع ابو امين كما يقول أن يعيش الى يوم يقف فيه عاجزا عن السكوت على الاخطاء التي يرتكبها طارئون على مهنته "دقّيق حجر" وأن لا يكون قادرا على التدخل لتشكيل ملامح دار يبنيها نجله.
مهنة دق الحجر عرفها الاردنيون منذ عقود طويلة وتتعلق برسم الصخر بطريقة يصبح فيها جاهزا ليصبح لبنة بناء تزين فيها جدران البيوت الخارجية.

وتمنع قوانين العاصمة الاردنية في الكثير من المناطق ان يتم بناء البيوت من غير تأسيس "الحجر" على الجدران الخارجية، وهو ما اضفى على العاصمة عمان منظرا خاصا.
ويصنف العالمون في "دقّ" وبناء الحجر، الحجر الى صنفين "سرّاحي" وهو صنايعي الحجر العادي المدقوق المستخدم في "مداميك" البناء العادية، والصنف الثاني "شُقف" - جمع شقفة- وهي التشكيلات المختلفة من الحجر، وغالبا ما يستفيد العاملون في "دقّ" وبناء الحجر من "الشقف" اكثر من "السرّاحي" فالثاني يحتسب المتر الطولي منه مترا واحدا، فيما تحتسب كل قطعة من التشكيلات وحدها، فمثلا قطعة اسمها "الكلب" طولها 20 سم تحتسب مترا واحدا، و "القمطة" طولها 30سم تحتسب ايضا مترا، و"الدستور" يحتسب المتر الطولي منه بأربعة امتار، وحجر الزاوية تحتسب مترا واحدا، و "الشقفة" من القمط الالماني تحتسب مترين، وحجر "المديار" مترا واحدا.

التعابير والاسماء السابقة لقطع من الحجر تستخدم في بناء براويز الابواب والشبابيك، وفي اعمال الديكور وفيها الكثير من الاعمال الفنية التي ظل الاجداد يتقنونها، لكن الامر تغير اليوم بعدما هيمنت العمالة الوافدة، على قطاع الانشاءات ومنها بالطبع منهة “دقّيق الحجر« فمن بين مئات العاملين في هذه المهنة لا تجد اليوم سوى عدد قليل لا يتجاوز عدد اصابع اليدين الاثنتين من الاردنيين ما يطرح سؤالا وجيها برسم الجميع من دون استثناء: الى متى سيستمر الاستغناء عن ادواتنا التي من شأن تركها تدمير حياتنا؟

ولا تسمح العائلة لابي امين القدوم الى "ورش البناء" لمتابعة اعمال العائلة في البناء ودق الحجر هذه الاعمال التي بدأها هو واخذها ابناؤه عنه.
ولكن ابا امين يغافل الجميع احيانا ويزور بعض الورش وهنا تبدأ المشاكل. على حد وصف ابنه أمين. يقف أبو امين الذي ما زال في جسده بعض القوة مستندا الى سيارة حفيده ينظر من بعيد الى عامل وافد يعمل بدقّ الحجر.
يقول اسماعيل حفيده المتهم بانه لا يرد لجده طلبا حتى وان طلب منه ان يأخذه الى الورش: عندما يرى جدي العامل الوافد وهو يكابد الحجر في صنعة لم يعتد عليها ولم يعرفها يبدأ بالتمتمة والحديث مع نفسه وكأن شخصا ما يقوم بارتكاب جناية بحق الحجر.

رغم انه لم يعتد السكوت على الاخطاء، ولم يكن يتوانى عن انتقاد الكبير والصغير على حد سواء، مهما تكن النتائج المتوقعة، إلا أنه يلزم الصمت الان خشية من ان يمنع منعا باتا من القدوم الى الورش حتى وإن كان زائرا. وهو يجلس بعيدا، متألما وهو يراقب مشهد العمال يمارسون عملهم غير الماهر على حد ما يرى.

في البداية لم يفهم ابو امين سر رفض ابنه ان يأتي الى ورش العمل. وكان في ظنه سابقا ان فلذة كبده، يحيله على التقاعد المبكر، ويطلب منه الانزواء بعيدا في انتظار الموت.
لكنه ادرك ما الذي دفع ابنه للطلب منه هذا الطلب. يقول امين: الحاج لا يسكت منذ ان تطأ قدمه الورشة حتى يخرج رافضا ان يلمس اعمال الحجر العامل الوافد"، مشيرا الى ان "والده خرج للتو من ازمة قلبية كادت تودي بحياته، ومن حقه والبر به الحفاظ على حياته".

يدرك امين ان والده محق ولكنه يقول: "لم يعد الشباب الاردني يقبل على هذه المهنة الصعبة والتي تحتاج الى الجلوس في الشمس ساعات طويلة من أجل العمل من أين آتي بالعمال، خاصة وان اوضاع البناء في "ورش" تزداد سوءا يوما بعد آخر، وفق تعبير "أمين".

وسبق لمجموعة من العاملين الاردنيين واصحاب مناشير الحجر والرخام بالمملكة ارسلوا مذكرة  الى وزير الداخلية يطالبون فيها بالتدخل لاعادة الامور الى نصابها حسب تعبير المذكرة، فحسبها اصبح العمال الوافدون يسيطرون  بشكل شبه كامل على مناشير الحجر والرخام عبر الدخول كشركاء في المناشير بالالتفاف على القوانين المرعية او استئجارها بما يعرف بعملية “الضمان«، واخذوا يتصرفون بوصفهم اصحاب عمل وليسوا عمالا، كما هو مدون في تصاريح عملهم وعقود استقدامهم من بلدانهم، والانكى من ذلك حسب ما جاء في المذكرة انهم ينافسون اصحاب العمل الاردنيين بطرق غير شريفة، فهم اليوم يتحكمون بالاسعار، ولا يسمحون لاحد برفعها الى ما يتناسب مع التكلفة، ومع ذلك فانهم يحققون ارباحا اكثر من غيرهم، وذلك عبر السرقة بالقياسات “الكيالة« من جهة، والغش في النوعية من جهة ثانية، وتتحدث المذكرة عن هيمنة العمال الوافدين على ما يزيد عن 80% من مناشير مدينة الزرقاء، و70% من مناشير سحاب، و50% من مناشير الكرك، و40% من مناشير اربد.

وعلى حد تعبير مدير عام مؤسسة التدريب المهني م. ماجد الحباشنة بالقضية التي لم يعد مقبولا السكوت عنها.
وحسب ما قال لـ "مشروع مضمون جديد" فـ "ليس من المعقول ان تتحول مهنة اردنية خالصة- لم يكن احد يوما يحلم ان يفقدها اصحابها - الى مهنة يمارسها فقط في الاردن غير الاردنيين"، فـ "دقّ الحجر" وفقا لمورد الحجر الخام الى المناشير محمد حسن ابو عرقوب كان وما زال شأنا خاصا من شؤون الناس في بلاد الشام، فهذه المهنة تعد خلال القرنين الاخيرين جزءا من النسيج الثقافي لاهالي بلاد الشام، وتعبيرا حقيقيا لفكرة انسجام الانسان مع بيئته، واشتقاقه ادواته للعيش من مفرداتها، فـ "دقّ الحجر" ظهر في بيئة متخمة بالحجر الخام المناسب للبناء والتشييد، وهذا ليس طارئا على المنطقة، فتاريخها كما تتحدث عنه آثارها يزخر بتفاصيل حضارات عديدة قامت واندثرت وما زالت معالمها قائمة الى اليوم، استخدمت في تشييد منشآتها الحجر الموجود في البيئة ذاتها.

أدوات الدقّ
يتذكر ابو أمين الايام الاولى التي بدأ فيها العمل في تعلم مهنة “دقّ الحجر«، كان ذلك كما يقول في نهاية خمسينيات القرن الماضي، حينما استعان به ابن عم له كان قد بدأ العمل في ورشة بناء في بلدته بالضفة الغربية، كانوا يجلبون الحجر الخام من "محجر" في "بيت حنينا" بالقرب من مدينة القدس، فالحجارة لغايات استخدامها في البناء يستخرجها "حجّارة" من مقالع يطلق عليها الاهالي مَحْجَرْ، فيبدأ مساعد دقّيق الحجر بتهذيب اطراف الحجر وحوافه باستخدام "المهده" و "الشاقوف" حتى يصبح شكل الحجر مستطيلا، وزواياه قائمة وهنا يأتي دقّيق الحجر الذي يجهز الحجر وفقا للطلب باستخدام ادوات يدوية عديدة.

"ابو أمين" يتحدث بحميمية عن ادوات العمل، فقد امضى معها اكثر من اربعين عاما، واول الادوات "المهدة" والشاقوف اللذين يستعملان للتهذيب والمطرقة التي يُطرق بها على "الازاميل" و "الشُوّك" و"الطمبر" والازميل هو قطعة من الحديد الصلب حاد مثل السكين يستخدم لتنعيم اطراف الحجر، "الشوكة" تستخدم لتهذيب الحجر من الزوائد الصغيرة، واما “الطمر« فانه يستخدم لكسح اطراف الحجر او "شق" الحجر حسب تعبير اصحاب المهنة، واما اداة “المطبة« فهي لتجهيز وجه الحجر “المبرز« الذي يستخدم عند الشبابيك، فاطار الشبابيك تكون الحجرة فيها ذات وجوه مبزره، وهناك شوكة بسن واحدة، وبسنين وبثلاثة اسنان، وباربع وذلك لـ "دقّ« الحجر المسمسم واداة اخرى اسمها الزاوية وهي زاوية معدنية للحصول على الزوايا القائمة للحجر.

أنواع الحجر
انواع الحجر كثيرة، تكتسب اسماءها من المنطقة التي استخرجت منها، وافضل انواع الحجر في الاردن حجر “سطح معان« لجهة انه حجر صلب قليل امتصاص المياه، ويوازيه في الصلابة والجودة حجر عجلون، واسعار المتر المربع من هذين النوعين الاعلى بين انواع الحجر المختلفة ويراوح حول ستة دنانير، ويوجد بعد ذلك اصناف كثيرة من الحجارة تتراوح اسعار المتر المربع منها ما بين دينارين واربعة دنانير، مثل حجر "الرويشد" و "حيان" وحجر صحراوي ومن الهاشمية الحجر الاصفر، سعره بحدود 4 دنانير، ويستخدم لاعمال الديكور وكذلك الحجر الاحمر الذي يستخدم ايضا لاعمال الديكور، لكن سعره اعلى من الاصفر.

في الضفة الغربية وقبل احتلالها عام 1967 كان افضل واشهر انواع الحجر هو حجر "الجماعين" نسبة الى منطقة قرب نابلس، ويأتي في ذات المرتبة كما يقول ابو أمين حجر قباطية الذي اشتهر لاحقا، واصبح مطلوبا لدول الخليج العربي بشكل كبير، وارتفع سعره الى حدود عليا، واما حجر الخليل فهو من اقسى انواع الحجر، كان الحجّارة في الماضي يجدون صعوبات جمة في استخراجه كما كان العاملون في دقّة يعانون الأمرين، والبناءون كذلك لجهة صعوبة التعامل معه لقسوته.

اصناف الدقّ
انواع الدقّ كثيرة لكن تفاصيلها كثيرة متشعبة واكثر انواع الدقّ انتشارا اليوم هو “المسمسم«، لكن في الماضي قبل دخول مناشير الحجر دورة الانتاج ظل حجر "الطبزة" هو السائد، صحيح ان عددا من اصحاب الورش ما زالوا يطلبون الآن حجر “طبزة« لكن الغالبية العظمى من المباني تنهض اليوم باستخدام الحجر "المسمسم" ودقّ الحجر باسلوب "الطبزة" لا يحتاج من "الدقّيق" جهدا يذكر، فوجه الحجر - الجهة التي تظهر للرائين من الخارج- يترك كما هو من دون ان يتدخل ازميل او مطرقة "الدقّيق" واما "المسمسم" فان "الشوكة" بأسنانها المتعددة تتكفل بنقر وجه الحجر الناعم بفضل قصه بالمنشار الآلي، الى ان يبدو الوجه مزينا بعشرات النقرات.

 

أضف تعليقك