تلال الفوسفات تجثم على صدر مدينة الرصيفة منذ عشرات السنين
العرب اليوم - نوف الور
أعد هذا التقرير بدعم من مشروع مضمون جديد باشراف الصحفي لقمان اسكندر
يتذكر مدير بلدية الرصيفة الدكتور عصام الغزاوي يوما كانت فيه الرصيفة حدائق وبساتين ممتدة على ضفاف السيل, ولكن يد الزحف الصناعي العشوائي في المنطقة, والاسمنت قتلت كل اخضر بعد ان جففت منابع المياه فيه السيل.
على بعد امتار قليلة من مبنى بلدية الرصيفة يقع سيل تحول مساره الى مكب للنفايات بعد ان جف ماؤه.
تقف على نافذة المبنى مطلعة على السيل, وتراقب حجم الكارثة البيئية التي وقعت للمنطقة من دون ان يخطر لك ان هذا المكان هو نفسه الذي كان مرتعا للمتنزهين قبل ثلاثين عاما فقط.
يقول احد موظفي البلدية رفض الكشف عن هويته لمشروع مضمون جديد كان الناس قبل ثلاثين عاما يزورون هذه المناطق للنزهة, اما اليوم فيكاد المرء المجبر على المرور من امام هذه المنطقة يخترق بمركبته منطقة مسرعا ليتخلص من الملوثات والروائح.
الرصيفة والفوسفات
بداية الحكاية كانت عند اكتشاف الفوسفات في المنطقة مطلع القرن العشرين, والتي كانت سيفا منح اهل المنطقة حصتهم من حدّه الملوث, بعد ان اعتقدوا ان تشغيل ابنائهم في مشاريع الفوسفات ذات نفع لهم ولابنائهم, ولكن المتتبع لمسار المستقبل يرى حجم الكارثة التي تركتها الفوسفات اليوم في الرصيفة.
تعد الرصيفة من كبرى مدن المملكة وتتميز بموقعها الاستراتيجي الواقع بين العاصمة عمان ومدينة الزرقاء ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة ومساحتها التنظيمية المقدرة 38 كم2. كما تبلغ كثافتها السكانية حوالي 15000 نسمة في الكيلو متر المربع الواحد اي انها من اعلى المستويات عربيا وعالميا.
وتقع المدينة على مجموعة من التلال والهضاب والروابي المتوسطة الارتفاع ويخترقها وادي سيل الزرقاء بطول 8 كم2 وتشكل مياه الامطار نسبة كبيرة من مياهه وشطرت مدينة الرصيفة بحسب جغرافيتها الى نصفين.
بدأ تعدين الفوسفات في منطقة الرصيفة بمبادرات فردية بالطرق التقليدية حتى ثلاثينيات القرن الماضي الى ان اصبحت عملية تعدين والنقل لخامات الفوسفات بالطرق الالية.
تأسست شركة الفوسفات الاردنية عام 1953 ويقول الدكتور الغزاوي استمرت عملية تعدين الفوسفات عبر الانفاق الى ان اصبح الكشف السطحي بواسطة اليات ضخمة فتنقل الفوسفات من الموقع الى منطقة الامتياز ليصبح هناك نوعان من التلال ما افرغته الاساليب القديمة وما انتجته الاليات الحديثة.
وتكمن خطورة الاسلوب القديم في التعدين - الانفاق- لوجود منازل مشيدة الان على انفاق من دون ان يعلم اهلها بذلك.
واستملكت الاراضي في المدينة ثم بني عليها بطريقة عشوائية من دون اي تخطيط وعلى عجل وذلك استجابة للهجرات المتتابعة على المملكة.
ولعبت هجرات الاردنيين من اصول فلسطينية الى المنطقة - منذ العام 1948م جراء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين التاريخية - دورا مهما في تكوين الرصيفة. ولم تكد المنطقة تستوعب مفرزات نكبة 48م حتى تلتها نكسة 1967 بتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية الى الشرقية وما انتج ذلك من نزوح الالاف من الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولكن الهجرة الاوسع للمنطقة كانت تلك التي جاءت في اعقاب حرب الخليج الثانية وعودة المغتربين من الخليج الى المملكة عام 1990 واستقرار الاف الاردنيين من اصول فلسطينية وتحديدا شمال المدينة حيث تكونت الاحياء الجديدة كحي القادسية وحي الرشيد اضافة الى تكدس الاحياء الجديدة, وهو ما ادى في النهاية الى زحف السكان الى مناطق الفوسفات حتى اصبحت تلال الفوسفات وسط المدينة.
ولم يفطن سكان المنطقة ان الاعلان عن توقف التعدين في المنطقة بعد اكتشاف نوع من الفوسفات افضل جودة في جنوب المملكة, بانه سيعني ترك تلال الفوسفات على حالها والمغادرة هكذا ببساطة.
ناشطون في مجال البيئة
يقول المحامي والناشط البيئي حمد شاهين وهو من سكان المنطقة ان الرصيفة تعتبر من اكثر المناطق البيئية الساخنة في المملكة.ويضيفنعلم ان الفوسفات ليست هي المشكلة الوحيدة, ولكن يكفينا اليوم من معركة التركيز عليها, فما فعلته السلطات المختصة انها قامت بتسوية المنطقة رغم النداءات المتكررة بمعالجتها, خاصة وانها تحمل اضرارا بيئية وخيمة .
ويخشى الناشط الحقوقي ان لا تكون تطمينات البعض من ان فوسفات الاردن امن صحيا وان نسب اليورانيوم فيه ضيئلة ولا تسبب الامراض في محلها. ويقول: ماذا عن ارتفاع نسبة السرطانات في الرصيفة?.
وتكمن الخطورة في دقائق هذه الاتربة التي يقل حجمها عن (5) ميكرون والتي لا توقفها اجهزة المناعة في الجسم كما انها تذوب في الرئة التي تؤدي الى التترب الرئوي.
وتشكل هذه الذرات 11.1% من وزن عينات الهواء التي جرى فحصها في هواء المدينة, ويتفاوت حجمها في الجو من مكان الى اخر, حسب سرعة الرياح واتجاهها, حيث تقوى الرياح على حمل ذرات اكبر حجما كلما زادت سرعتها.
ويتأثر حجم الذرات بحجم ذرات المادة الاصلية التي انبعث منها الغبار داخل الجهاز التنفسي. وتحتوي خامات الفوسفات على بعض المركبات التي تمتاز بسميتها مثل اكسيد الصوديوم- ثاني اكسيد الكربون-الفلور- الكلورين- الكبريتات.
وأشار الى ان أمام اهل المنطقة فرصة حقيقية لتحويل المنطقة الى ملاعب وحدائق وتحويلها الى متنفس للبشر هناك الذين يعانون من اكتظاظ سكاني مخيف.
وأوضح ان بعض مؤسسات المجتمع المدني حاولت حل المشكلة, الا انها عجزت عن ذلك للتكلفة الكبيرة لهذه العملية.
لكن السكان استبشروا خيرا بعد زيارة الملك عبدالله الثاني للمدينة, وسماعه لشكوى الاهالي, فتم تشكيل لجنة مكونة من وزارة البيئة وعضوية عدد من القطاعات ذات العلاقة, اوصت بإعادة تأهيل احدى مناطق تلال الفوسفات بكلفة مرصودة من قبل وزارة البيئة تصل الى 900 الف دينار, وإعادة احياء سيل الزرقاء, واستخدام مياه الابار بكلفة 30 الف دينار, وتنفيذ حملتين الاولى لتنظيف السيل بكلفة 50 الف دينار والثانية لزراعة الاشجار بكلفة 10 الاف دينار, اضافة الى اعادة تأهيل مكب النفايات القديم, وتطوير شبكة الغاز الحيوي فيه.
كما اوصت اللجنة بتأهيل مناطق بديلة للمهن والحرف في المنطقة بدلا من ان تكون في وسط الاحياء السكنية.
ومن بين مؤسسات المجتمع المدني في المدينة, والتي تعنى بمعالجة المشكلات البيئية هناك الجمعية الاردنية لحماية البيئة التي تهدف الى مساعدة البلدية في توزيع الحاويات في مدينة الرصيفة, ومشروع لتدوير الورق والتوعية في مجال الزيوت العادمة, وتوعية ربات البيوت للالية الصحية المرغوب فيها في التعامل مع النفايات المنزلية, ورفع الوعي البيئي لدى طلاب المدارس عن طريق شبكة للتعليم البيئي المدرسي.
يقول رئيس الجمعية خضر الغانم اجرينا العديد من الدراسات التي تتضمن معالجة المشكلات البيئية وعلى رأسها تلال الفوسفات.
وذهبت دراسات بيئية الى امكانية استخدام تراب هذه التلال في رصف الطرق او في رصف حفريات الصرف الصحي, واستبدالها بتربة حمراء قابلة للزراعة وأكثر امانا للاطفال.
ورغم ذلك, لم تترجم اي من الدعوات او الموافقات سواء الرسمية او الشعبية على الارض بإزالة تلال الفوسفات, وما زالت هذه التلال تقف على ابواب المدينة تدكّ صدور سكانها.
والمضحك المبكي ان الاتفاقية التي وقعتها الحكومة في حينه مع شركة الفوسفات لم تتضمن بند إعادة الوضع الى ما كان عليه قبل التعدين كما هو متعارف عليه عالميا.
ليس بيد الغانم شيء ليفعله غير ذلك لكنه يتعهد بمواصلة الضغط على الجهات ذات الصلة لمعالجة ما وصفها بالكارثة البيئية في المنطقة, مشيرا الى انه من سكان المدينة ولن يرحل منها بل سيعمل مع ابناء المنطقة على اعادة تأهيل الرصيفة لتحويلها الى مدينة تخلو من الملوثات البيئية.
ويقول يوسف النجار وهو صاحب احدى الكسارات في المدينة ان الرصيفة كانت قطعة من الجنة, الا ان السحب الجائر لمياه السيل وتلويث ما تبقى منه والزحف العمراني العشوائي ادى الى تخريب المدينة.
وأضاف كانت مياه السيل عذبة وغير منقطعة صيفا او شتاء, وكان الصغار والمراهقون يسبحون فيها ويصطادون السمك الذي كان يعيش فيها, لكنها اليوم وبعد ان تحولت الى مكب للمياه العادمة, غارت المياه ودفنت في عبارات صندوقية بعد ان تحولت الى الصرف الصحي.
ذرات الغبار
وتلعب ذرات الغبار دورا مهما في نوع انتشار الامراض التي يصاب بها سكان المناطق. وإضافة الى التأثيرات الصحية الناجمة عن المؤثرات الاشعاعية والتلوث البصري وأمراض الجهاز التنفسي تنتشر في المنطقة حالات التحسس الشديد والربو وتهيج العينين.
وقال الدكتور صعب ابو غوش اخصائي الطب العام في الرصيفة الذي يعمل في المدينة منذ 24 عاما ان تلال الفوسفات وما تحويه من عناصر تعد اهم اسباب الامراض التي يعانيها سكان مدينة الرصيفة, وما يزيد من خطورة الامر هو ان المدينة ثالث مدن المملكة من حيث الكثافة السكانية
ويقول نحن امام تجمع سكني يشبه الى حد كبير تشكيلة المخيمات, الا انها اكبر حجما, مشيرا الى ان عيادته تستقبل اعدادا هائلة من المرضى بشكل يومي يعانون من مختلف الامراض التي تسببها ملوثات المدينة بداية من التحسس وصولا الى امراض السرطان.
ويعرب الدكتور ابو غوش عن اسفه لعدم وجود دراسات محددة حول انواع الامراض التي تتركز في المدينة.
قبل زيارة الملك عبدالله الثاني الاخيرة للمدينة وتكليفه الجهات المعنية القيام بما يلزم لمعالجة مشكلة الفوسفات كنا نعاني من المسؤولين عدم رغبتهم في سماع اي شكوى تتعلق بذلك يقول د. ابو غوش لا تعاني المدينة من فقر صحي وحسب بل من فقر اقتصادي وبطالة
ويستذكر المواطن احمد الخطيب الذي يسكن المنطقة منذ اكثر من خمسين عاما التفجيرات التي كانت تتم لاستخراج الفوسفات. ويقول كنا في حالة تأهب مستمر فبعد التفجير تبدأ الحجارة والاتربة المتطايرة بالاغارة على المنازل وهو ما سبب لنا معاناة صامتة ولكن خطيرة.
أما المواطن سليمان محمد وهو موظف في شركة الخزف الاردنية, فأشار الى ان مشكلة تلال الكارثة - كما يصفها - ليست جديدة, ويدركها المسؤولون تماما, الا انهم لم يحركوا ساكنا, رغم ان بعضهم يعانون منها.
وهو ما اشار اليه الكاتب عمر قاسم احد المقيمين في المنطقة عندما قال نعيش في واقع مرير يفتقد الى الوعي البيئي, والذي اذا استمر سيفقدنا الانتماء لمدينتنا التي حاربنا لمحاولة انقاذها ليعيش اطفالنا بها في خير وسلامة, مشيرا الى ان حل المشكلات البيئية في الرصيفة ليس صعبا سواء مشكلة الفوسفات او غيرها لكننا نفتقد الارادة.
ورصدت كاميرا مضمون جديد عدة صور لتلال الفوسفات التي تمت ازالتها بموجب التوجيهات الملكية حيث بدأ العمل في المرحلة الاولى لازالة تلات الفوسفات وفتح شارع يعد مدخلا جديدا للمدينة.. ولكن هل ستمضي الاليات العاملة في المواقع بعملها الى اخر الشوط ام ان هذه المعالجات ستكون جزئية لمجرد ذر الرماد في العيون?.
إستمع الآن