المناشير تغرق عمان الفقيرة وما حولها بالغبار والضجيج
اعد هذا التقرير بالتعاون مع مشروع "مضمون جديد". العرب اليوم - عماد السعايدة - باشراف لقمان اسكندر
عندما طلب الطبيب من والد محمد العبابنة وشقيقته اللذين يعانيان من الربو ابعادهما عن الغبار كان الحل بهجرة الأسرة لمنزلهما واستئجار شقة بعيدة عن موطن "المرض".
"كان لا بد أن اتصرف, فلا يمكن أن أترك أطفالي يعانون إلى حين حل مشكلة المحاجر". يقول أحمد العبابنة المتقاعد من القوات المسلحة والذي يسكن إحدى مناطق صويلح التي أقام فيها منزله الجميل منذ عدة سنوات.
حين راجع العبابنة - 47 عاما - البلدية وحصل منها على التراخيص اللازمة, كان واثقا انه يقوم بالخطوة الصحيحة, خاصة بعد أن طمأنه المسؤولون هناك أن "مصانع الحجر المنتشرة في الحي لن تمكث طويلا", ولكن ما لم يكن يعلمه الرجل أن مطالبات إزالة المحاجر هي مطالبات معمّرة. رغم ما قيل له.
"سوف ترحل بعد وقت قصير.. هذا ما قاله لي مسؤول البلدية بثقة حينها" يتمتم العبابنة متأسفا على حاله الذي اضطره إلى استئجار منزل.
تلك الوعود التي راح المسؤولون يطلقونها له ذهبت أدراج الرياح, - كما يقول - من رحل هو وعائلته بعد أن أصيب ابنائه بالربو, وبقيت المصانع.
لم تنصف أحمد وأهالي الحي الذين يصل عددهم إلى حوالي 10 آلاف نسمة المؤسسات الرسمية التي لطالما سطر لها المذكرات والمطالبات الواحدة تلو الأخرى, مطالبا برحيل تلك المصانع لايجاد بيئة نقية في حيهم الجميل الذي يعلو صويلح من الجهة الغربية, لكنهم لم يحصلوا إلا على مزيد من الوعود, ولا شي غير ذلك.
وتستمر تلك المصانع في بث غبارها المتطاير في سماء الحي من دون مراعاة أو اكتراث لصحة سكان الحي.. وكأن لسان حالها يقول.. فليذهب الأطفال إلى الجحيم.
معاناة سكان الحي مستمرة على مدار الساعة, ولا تقتصر على الغبار المتطاير من مناشير الحجر, بل يزيد من تلوث الهواء تلوث الضجيج الذي تصدره الآلات والماكينات التي تعمل ليل نهار.
"هذه مشكلة أخرى دفعت السكان إلى أمراض التوتر وشد الأعصاب.. لقد بتنا لا ننعم بساعة هدوء كما الآخرون", يقول العبابنة.
هذا الواقع لا ينطبق فقط على سكان منطقة صويلح, فهناك من يعاني المعاناة ذاتها خاصة في احياء بمناطق ماركا, والمقابلين, ووادي السير, وسحاب, والقويسمة وابوعلندا والرقيم, وخريبة السوق, وناعور, والنصر, وأحد, والجيزة بسبب انتشار مناشير الحجر ومعامل الطوب فيها والتي يصل عددها 1200 مصنع.
"المناشير تغرق عمان الفقيرة وما حولها بالتراب والضجيج". يقول سمير عبدالسلام المواطن الذي يسكن أحد أحياء النصر - "34 عاما".
وكانت مديرة المخطط الشمولي في أمانة عمان المهندسة ريما عوده اعترفت في وقت سابق في إحدى الورش البيئية بوجود عشوائية في انتشار وتوزيع مناشير الحجر ومعامل الطوب لوقوع البعض منها بالقرب من المناطق السكنية والمدارس, فضلا عن عدم مراعاتها للمواصفات البيئية والتلوث الناجم عن نشر الحجر.
"مطالبات منذ سنين ولا نتائج"
سكان الأحياء القريبة من مصانع ومناشير الحجر والرخام تعبوا من مناشدة المسؤولين في أمانة عمان ومنذ عام 2000 مساعدتهم في التخلص من معاناتهم الصحية التي يعيشونها على مدار اليوم نتيجة الأثر السلبي للتلوث البيئي في منطقتهم والإزعاج المتواصل التي تسببه المناشير ومقصات الحجر والآليات الثقيلة, خاصة عندما ترمي بحمولتها دفعة واحدة على أرض المصنع.
على حد وصف احمد العبابنة "الأمر يشبه انفجار القنبلة". ولكن الأمانة كما يقول العبابنة: "لا تكترث طالما أن أحدا من المسؤولين يسكن هذه المناطق, وفي كل عام نفاجأ بتجديد الرخص لأصحاب هذه المصانع لعلاقاتهم مع المتنفذين".
"المسؤول هو الذي يعد الوعد باستمرار ويخلفه دوما", هذا هو تعريف المسؤول بالنسبة لسكان هناك. يقول عبابنة آخر الوعود التي تلقيناها لإيقاف منح الرخص لتلك المصانع لا بل وترحيلها كانت مع نهاية عام 2010 مع بداية عام ,2011 ولكن وكما كل عام يتم التجديد لمدة سنة.
هل يعلم المسؤول الذي وقع على كتاب التجديد إنما وقع على صحة نحو 10 آلاف مواطن هم سكان المنطقة لعام آخر" يسأل عمر المصري وهو أحد سكان المنطقة.
وقال المصري - 45 عاما -: "إن أمانة عمان لم تساعد أهالي الحي, " على حد تعبيره.
ما لا يفهمه الناس هناك أن القانون يمنع وجود مثل هذه المصانع بين الأحياء. فكيف يُسمح ببقائها, رغم تخصيص مناطق صناعية وحرفية لهذه الصناعات.
مطلع العام الجاري زارت لجنة من وزارة البيئة برئاسة المهندس عدنان الزواهرة حي صويلح ورفعت تقريرا إلى أمانة عمان بتاريخ 12/1/2011 طلبت فيه ترحيل المعامل والمصانع الى مناطق بديلة مؤهلة بيئيا لهذه الغايات. ولكن بقيت هذه التوصية حبرا على ورق.
أصحاب المصانع
رفض أصحاب المصانع التصريح بشكل علني لنا, ولكن كل ما يملكه هؤلاء من حجة هي أنهم "أول من تواجد في هذه الأحياء وقبل السكان, وأن السكان هم من لحقوا بالمصانع وليس العكس" كما قال أحد أصحاب هذه المصانع الذي رفع الكشف عن هويته.
ويستغرب صاحب مصنع آخر "كيف فكّر المواطنون في السكن هنا". يقول: "لا أدري كيف أقنع من سكن نفسه بالسكن في المنطقة, فالهواء موبوء بسبب مخلفات المصانع.. وهو أمر واضح للجميع". ولكن ما لا يفطن إليه أصحاب المصانع أمران الأول: تدني القدرة المالية لهؤلاء "الناس" هو ما أجبرتهم على البحث عن سعر أراض أقل, إضافة إلى أنهم غير مسؤولين عن المد السكاني.. ف¯ "الناس يتوالدون فأين يذهبون.? على حد قول المصري.
" أمانة عمان تؤكد على ترحيلها والمخطط الشمولي يمنع وجودها بين السكان"
رغم اقرار مخطط عمان الشمولي قبل عدة سنوات الذي منع العشوائية في إقامة الصناعات مهما كان نوعها داخل المناطق السكنية أو بالقرب منها. وحدد لها مناطق خاصة مرخصة لهذه الغايات تكون بعيدة عن السكان والتجمعات السكانية, الا ان الاجراءات تسير ببطء شديد.
"بل إنها لا تسير أبدا" يقول مراد إسماعيل مواطن مطلع على إجراءات الأمانة كما عرف نفسه. ويضيف, المصانع باقية والقرارات التي تمنع إقامة هذه المصانع هي الأخرى باقية, أما الوحيد في صعود فهي الأمراض بين الأطفال وهي تتزايد.
وفي تصريح صحافي ردا على أسئلة مشروع "مضمون جديد" أكدت الأمانة أن المخطط الشمولي لعمان وضع تصورات للصناعات في عمان ووزعها حسب أنواعها, مشيرا إلى أن مناشير الحجر والرخام تعتبر من الصناعات الخفيفة.
وأشارت إلى أن وجود هذه المصانع بين الأحياء أمر مخالف للاستعمال التنظيمي, منوهة أن مخرجات المخطط الشمولي خصصت اراضي في عدة مناطق لاستعمال الصناعات المتوسطة المسموح بها, اضافة الى تنظيم بعض القطع في جنوب وشرق العاصمة لذات الاستعمال, والتي تبتعد عن التجمعات السكنية بسبب ما ينتج عن هذه المصانع من مخلفات وما تصدره من ضجيج, إضافة إلى اتخاذها الإجراءات القانونية اللازمة لترحيل المصانع من مواقعها وفي مدة اقصاها الاول من شهر نيسان المقبل.
وفي ردها حول التأخير في ترحيل مصانع ومناشير الحجر قالت إن السبب هو التأخير في تجهيز البنية التحتية للمدينة الحرفية التي ستستوعب كل مناشير الحجر والرخام, وان التجديد في تراخيص عدد من المصانع لا يعني بقاءها حتى نهاية العام فالامانة تملك الطرق القانونية لترحيل أصحابها.
"تاريخ معامل الطوب ومناشير الحجر"
تأسست معامل الطوب الإسمنتي ومناشير الحجر والرخام والجرانيت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي لكنها انتشرت بشكل واسع في الثمانينيات, وتركزت في المناطق المحيطة بحدود امانة عمان والتي انضمت في وقت لاحق لها.
ورغم قيام أمانة عمان الكبرى بتحديد مناطق صناعية وحرفية في غالبية مناطقها, إلا أن كثيرا من أصحاب تلك المصانع أبقى عليها في موقعها, خاصة وان الإصرار على مطلب إزالتها لم يكن ويسمع قبل عام 1990م, فلم تكن معظم المناطق التي تنتشر فيها المصانع مكتظة بالسكان, ولكن مع قدوم ما يطلق عليه الهبة العمرانية والسكانية أخذت المناطق تشهد حركة عمرانية واسعة سواء في المنطقة المصنفة كمنطقة صناعية او غيرها, وهو ما تسبب في تطويق بعض الاحياء السكنية للمنطقة الصناعية التي تقع بها المعامل, مما جعل امر استمرارها للعمل على الوتيرة نفسها امرا صعبا, خاصة أننا نتحدث عن مئات المعامل.
وبينما لا يعرف الاهالي شهرا في السنة اسمه الربيع, ينتشر في فصول الصيف الغبار المنبعث من هذه المعامل, مما يتسبب في انتشار أمراض الجهاز التنفسي والرئتين, ومع مرور الوقت تتحول هذه الأمراض إلى "مزمنة", والامر نفسه ينطبق على شهور الخريف, أما فصول الشتاء فلا تأتي على الأهالي بردا وسلاما, فالأمطار هناك تتحول إلى مياه ملوثة بفعل الغبار الكثيف.
وكانت دراسة اعدها فريق من البيئيين بعنوان "إعادة تأهيل المناطق الصناعية" خلصت بأن هذه المنشآت منتشرة ضمن المناطق الصناعية على مستوى امانة عمان في ثلاث عشرة منطقة ادارية على شكل تجمعات كبيرة وصغيرة.
ووفقا لاستبيان لواقع الحال اجراه فريق المخطط الشمولي في تسع مناطق صناعية ضمن حدود الامانة فان تلك المواقع تعتمد على رأس مال بسيط لا يتجاوز في اغلب الاحيان 1200 دينار, ومساحة مكان العمل محدودة حيث لا تتجاوز دونما واحدا يضم اكثر من منشأة.
وأظهرت الإحصاءات أن العدد الإجمالي للمنشآت التي لها علاقة بهذه الصناعة يبلغ حوالي 1000 منشأة ما بين منشار حجر ومعمل طوب وبلاط رخام ضمن المناطق الصناعية على مستوى مدينة عمان, وتبلغ نسبة المرخص منها حوالي 60% وفقا لمخرجات المخطط الشمولي المرحلة الثالثة التي تصنف هذه الصناعات كصناعات متوسطة والتي تشمل عمليات المعالجة الصناعية التصنيع, والتجميع, والتخزين, مع تواجد مخازن خارجية للفضلات والمواد (تحتوي عمليات خارجية ) تسبب الإزعاج واحتمالية منخفضة للإنبعاثات.
مناشير الحجر باقية والمصابون بالامراض الصدرية يتزايدون من الاطفال وكبار السن والاهالي لم يعودوا قادرين على فعل شيء امام هذه المعاناة اليومية.. وهم غير واثقين من جدية وعود الأمانة.. فهل تستجيب الجهات المعنية لمطالبهم وتفسح لهم الهواء ليعيشوا في صحة كما الاخرين.. أم أن المسؤول كما عرفه المواطنون هو: "الذي يعد الوعد باستمرار ويخلفه دوما".0
إستمع الآن