العمال الفلسطينيون: لعبة أمل في عبور جدار الموت لتأمين لقمة عيش

الرابط المختصر

الخليل - مهند العدم - مضمون جديد

فلسطينية مثل أم أشرف الهوارين لن تحظى بفرصة التقاعد عن العمل لتجالس أبناءها وتستريح في منزلها المتواضع. أم أشرف التي تجاوز عمرها الستين عاما، تكافح من أجل كسرة خبز.

في فلسطين، يوجد جدران أسمنتية ويوجد أسلاك شائكة.. حواجز شيد احتلال مهتمه مضاعفة الحياة على المواطنين، حتى تتحول لقمة العيش مشروع ليس من السهل الحصول عليه.

منذ 8 سنوات وام أشرف تصارع هذه الجدران لتأمين كسرات من الخبز وبعض حياة من لأبنائها الثمانية، بعد أن أقعد المرض زوجها فأصبحت المعيلة لأسرتها.

في الضفة، إذا عجز المواطن يجوع او يتسول .. لكن أمّ أشرف ومثلها كثير لا ترضى عيش الذل فنهضت لتعيل أسرتها.

"وزارة الشؤون الاجتماعية تدفع لنا نحو 200 دولار كل أربع شهور لا تكفي لإطعام أبنائها بضعة أيام".

تقول الحاجة أم اشرف

رحلة أم أشرف بحثا عن لقمة العيش، تزداد سوء وخطورة في ظل كهولة العمر وجبروت الاحتلال.
"مضمون جديد" رافق العجوز وعدد من العمال الذين يشاركونها قسوة الحياة عبر طريق الموت، كما بات يسمى نحو رغيف خبز معجون بالألم.
ركب العمال، ومعهم العجوز شاحنة رباعية الدفع من مدينة الظاهرية جنوب الخليل، متوجيهن إلى منطقة الحدود مع النقب الذي يفصله جدار الفصل العنصري أحدث فيه "المهربين" ثقبا ليتسنى لهم تهريب آلاف العمال داخل اراضي الـ 48 بحثا عن لقمة عيش.
في الطريق ينشغل الجميع بالدعاء بأن حالفهم الحظ ولا يقعون في قبضة الدوريات جيش الاحتلال وكلابهم المتوحشة.

اقتربت الشاحنة من منطقة حدودية ذات أرض وعرة. الشاحنة تهتز بشدة من وعورة الطريق ويهتز من فيها فعنف. الجميع يحبسون انفاسهم ويأملون ألاّ تقع الشاحنة في أحد الوديان ليضاف من فيها من عمال إلى عشرات العمال الذين قضوا أو أصيبوا جراء سقوط بعض الشاحنات في هذه الأودية.

وصلت الشاحنة إلى محطة الانتظار، حيث عشرات من العمال ينتظرون يهزهم برد قارص وخوف من نجاح هذه المغامرة.
محطة الانتظار وأمل عبور الجدار الفاصل

هنا تبدأ لعبة المطاردة والفرص. المهربون كما يطلق عليهم يراقبون بحذر، يقلقهم في المنطقة كل شيء ضجيج دوريات الجيش..أصوات اللاسلكي التي لا تهدأ منذرة، فيختبئون او يهربون الى منطقة أكثر أمنة. في الضفة لا يوجد منطقة اكثر أمنا.. لكن قد ينجح المرء في الاختباء حينا عن أعين الجنود.

انت الان هناك .. تريد ان تعبر الجدار لتسرق رغيف أطفالك الجوعى.. اهدأ قليلا، فأنت في محطة الانتظار، وسط أرض وعرة، لا يحيط بك سوى جدران إسمنتية ودوريات جيش الاحتلال التي كل همها أن تقلب حياتك حجيما.
يعمل المهربون مع أشخاص يحملون هويات إسرائيلية لنقل العمال إلى داخل إسرائيل مقابل 50 دولار لكل عامل.

الحاجة أم اشرف تنظر الى نقطة الحدود وعينها تمتلئ خوفا حينا وأملا حينا آخر. لعلها تعود الى أسرتها ببعض المال.
قد لا يعود برغيف الخبز لأبنائهم
"
حياتنا أصبحت ذلا وأهانه.. إحنا مجبورين نخاطر بحياتنا حتى نعيش، لا يوجد عمل في منطقتنا وما في حد يرضى يشغلني، أنا امرأة عجوز وما معي شهادة وين بدي اشتغل". تقول.

تعمل أم أشرف بائعة متجولة في القرى البدوية والعربية داخل النقب. تشتري ملابس أطفال وبعض العباءات والأثواب من مدينة الخليل وتبيعها في المناطق البدوية في مناطق السبع ومدينة رهط البدوية. "بكسب قرشين ما بكفن ايجار طريق وعشاء لأولادي" تضيف الحاجة، لكن تعلم ام اشرف كما يعلم من معها انه لا ضمانة بان يعودوا برغيف الخبز هذا.

يتعرض العمال الفلسطينيون وما يطلق عليهم "عمال التهريب" لأبشع الظروف الإنسانية التي لا تتوفر فيها أدنى الحقوق الانسانية. يتعرضون لإطلاق نار بهدف القتل او لمهاجمة الكلاب البوليسية الإسرائيلية التي تطاردهم أثناء عبور الحدود أو يتعرضون للضرب والاعتقال في حال الإمساك بهم. هذا ما يشرحه الشاب عوني مسالمة من جنوب الخليل، مشيرا ان عددا من العمال لقوا مصرعهم وأصيب بعضهم نتيجة أطلاق النار عليهم أو مطاردتهم من قبل الاحتلال.

ساعات الانتظار طويلة تلك التي قضاها عمال التهريب في محطة الجبل.. كانت "مضمون جديد" معهم واستمعت لقصص مروعة رواها العمال عن مغامرات مميتة يتعرضون لها وظروف لا إنسانية يعيشونها بلا لا حقوق ولا أجورا.
عامل البناء احمد حجه من مدينة دورا جنوب الخليل أب لخمسة أطفال .. أحمد هو الآخر كان في محطة الجبل.

يقول انه يودع أبناءه في كل مرة يذهب بها إلى مكان عمله في إسرائيل، فقد لا يعود.. لكنه اليوم محظوظا لأنه حتى هذه اللحظة لن يتعرض ومن معه لمطاردة او إطلاق نار أو غاز.

يضيف، قد نتعرض للقتل أثناء عبورنا الجدار الفاصل أو نعتقل او نتعرض لحادث مميت، فالمهربين يسيرون بسرعة جنونية ونتعرض لمطاردة في كثير من الأحيان تنتهي بحادث مأساوي.

أحمد تعرضت للاعتقال لمدة 6 أشهر ودفع غرامة مالية كبيرة، وفي حال تم الإمساك به أثناء العمل سوف يسجن لمدة 6 أشهر ودفع غرامة مالية تقارب 3000 دولار

يفترشون الأرض ويلتحفون الاحلام

لا تنتهي معاناة العمال بمجرد عبور الحدود والجدار. هم يدركون انهم إن عبروا الجدار فلن يدخلوا الفردوس.
يشتكي عمال التهريب من انتهاكات عديدة لحقوق العمال. يقول العامل أحمد حجة "نلجأ الى الكهوف والأحراش.
تخيل الفلسطيني وقد تحول الى رجل كهف، من دون مياه صالحة للشرب او للاستحمام رغم كل الامطار والبرد في الخارج.

يقول العامل احمد: نتعرض في كثيرا من الأحيان لـ "كبسات" كما يطلق عليها العمال من قبل جنود الاحتلال"، وفي حال امسك بنا نتعرض لضرب ولسجن ودفع الغرامات الباهظة، وفي كثير من الأحيان.

اما اذا نجى العامل من جنود الاحتلال، فلن ينجوا من هضم حقهم وانتهاك حقوقه من رب العمل، انتهاكات تصل لعدم تحصيله لثمن عمل قضى به أكثر من 10 ساعات يوميا.

يهربون من البطالة في الضفة الى انتهاكهم في اسرائيل

الشاب أحمد جيوسي وهو من مدينة قلقلية شمال الضفة الغربية حضر إلى منطقة الظاهرية لعدم وجود منفذ وصعوبة اجتياز الجدار الفاصل في مكان سكناه رغم أن مكان عمله لا يبعد سوى أقل من ساعة من منزله إلا أنه لجأ الى أقصى الجنوب لعل الحظ يحالفه ويجتاز الحدود رغم التكلفة المضاعفة التي تكبدها التي قاربت 200 دولار.

يقول إن ما يجبرهم إلى العمل داخل إسرائيل وخوض هذه المغامرة الخطرة هو عدم وجود فرص عمل داخل الضفة الغربية وتدني الأجر، وعدم حصوله على تصاريح عمل في إسرائيل التي تشترط أن يكون العامل متزوجا ولديه أبناء وتجاوز 26 من العمر وموافقة جهاز المخابرات الإسرائيلية على منحه تصريح العمل.

الجيوسي تخرج من الجامعة منذ ثلاث سنوات وقدم للعديد من الوظائف من دون جدوى. هذا الشاب لم يستطع الانتظار في المنزل، ولم يوافق على العمل بحد يقارب ان يكون مجانا "لا يتجاوز أجر العامل في الضفة 60 شيكل في اليوم"، علما ان سعر اسطوانة الغاز في الضفة بـ 70 شيكل.
يقول: كل أشي غالي.. الحياة غالية.. والعامل لا حقوق له سواء عند السلطة او عند إسرائيل.

لا يحمي قانون العمل في اراضي السلطة الفلسطينية العامل الذي يعمل بأجرة لا يتناسب مع مستوى المعيشة، أما في إسرائيل فيتعرض العامل للاحتيال باستمرار، أو للضرب والسجن من قبل جنود الاحتلال.. وين ما رحنا مبهدلين"، يقول الجيوسي.

ولا تقل معاناة الفلسطيني الحاصل على تصاريح عمل داخل إسرائيل عن مواطنه "المهرّب" فهم أيضا يتعرضون لتفتيش مذل وانتظار ساعات طويلة على المعابر الإسرائيلية، ويخضعون لشروط صعبة تفرضها إسرائيل على كل من يريد الحصول على تصريح عمل.
الشرط هو أن يزيد عمره عن 26 عاما وأن يكون متزوجا ولديه أبناء وأن لا يكون لديه أي نشاط سياسي وطني.

هذا ما دفع الكثير من الشبان إلى الزواج المبكر لكي يحصلوا على فرصة عمل في ظل عدم توفر فرص عمل وتدني الأجور في مناطق السلطة الفلسطينية.

العمال الفلسطينيين .. عبودية مقنعة

يقول أستاذ القانون الدولي معتز قفيشة ومدير العيادة القانونية في جامعة الخليل التي تقدم خدماتها واستشارتها القانونية مجانا في القضايا القانونية العمالية والقضايا الأخرى، تنظر إسرائيل الى العمال الفلسطينيين بأنهم "عمالة رخيصة، وهذا وفق القانون الدولي نوع من أشكال العبودية الجديدة.

ويضيف "إسرائيل تستغل الفقر والبطالة المنتشرة بين العمال الفلسطينيين وتسمح لمشغليهم الإسرائيليين باستغلالهم بهذه الطريقة غير إنسانية".

بعض العمال يدخلوا بشكل غير قانوني لإسرائيل "عمال التهريب" وبالتالي لا يتمتعون بأي حقوق عمالية ويسقطون ضحايا الاستغلال، ولا يوجد هناك أي وسيلة قانونية يستطيع منها العامل الفلسطيني إجبار رب العمل الإسرائيلي على منحه تعويضات أو التقيد بقانون العمل الدولي من توفر شروط السلامة في العمل، والحصول على الحد الأدنى من الأجر المحدد في القانون الإسرائيلي، والعمل 8 ساعات يوميا، أو الحصول على إجازات.

رب العمل "الإسرائيلي" يستطيع انتهاك هذه الحقوق من دون وجود أي رقابة على صاحب العمل نتيجة الدخول الغير قانوني للعمل في إسرائيل وفق وجهة نظرهم".

ويشير الى ان الحالات التي يدخل بها العامل بشكل قانوني وفق تصريح عمل، لا تقل معاناة فقد يتعرض العامل الفلسطيني للطرد من إسرائيل وفق النهج العنصري، وقد لا يستطيع العامل الفلسطيني الدخول مرة أخرى للعمل في إسرائيل لذرائع إسرائيلية عنصرية متعددة او الإغلاق الأمني الذي يفرض على الأراضي الفلسطينية.

وعن غياب الجمعيات الحقوقية الدولية والمحلية التي تدافع عن حقوق العمال الفلسطينيين في إسرائيل يرجع السبب قفيشة إلى أن "غالبية العمال الفلسطينيين لا يعملوا بشكل قانوني وفق القانون الإسرائيلي، وبالتالي لا تستطيع هذه الجمعيات أن تدافع بشكل كبير عن حقوقهم باعتبار وجودهم غير قانوني في إسرائيل.

ودعا قفيشة السلطة الفلسطينية الى تعديل القانون العمل الفلسطيني بما يتوافق مع المعايير الدولية خصوصا تحديد الحد الأدنى من الأجور ، متمنيا تطبيق الرقابة لتأكد من تطبيق قانون العمل ومراعاة وجود عقود عمل منصفه.

لكن تبقى الشريحة الكبيرة من عمال "التهريب" الأكثر مأساة تدفع ضريبة الموت لحاجتهم لتأمين لقمة عيش أبنائهم وأسرهم، بحاجة للحماية والاهتمام وإيجاد فرص عمل تتناسب مع كرامتهم، ومع مستوى المعشية المرتفع وقانون فلسطيني مطبق يكفل لهم الحد الأدنى من الأجور داخل المدن الفلسطينية، وإلى الدفع باتجاه رعاية حقوقهم وتأمين الظروف الإنسانية والحقوقية التي كفلها قانون العمل الدولي داخل إسرائيل من خلال الجمعيات الحقوقية الناشطة في هذا المجال.

لعبة الأمل في عبورهم الجدار

بعد أكثر من ساعتين في انتظار ابتعاد دوريات الاحتلال عن منطقة العبور، يشير أحد المهربين للعمال – والحاجة ام اشرف معهم – كي يستعدوا لاجتياز نقطة الجدار لملاقاة السيارات الإسرائيلية التي تنقلهم إلى داخل إسرائيل إلى مكان عملهم.

سريعا حزمت الحاجة مقتنياتها وحمل العمال أمتعتهم، وبدت ملامح الخوف على وجوه الجميع؛ فالكل يترقب ويدعو أن يجتاز النقطة الحدودية التي لا يفصلهم عنها سوى بضع خطوات.
ما هي الا لحظات وهرع الجميع مسرعين بعد ابتعاد الدوريات الاحتلال مئات الأمتار عن الفتحة التي أحدوثها بالجدار الشائك.

سيارات المهربين تصل بسرعة خيالية لتنقل العمال والحاجة تهرول بأقصى سرعة لها حتى لا تصل دوريات الاحتلال ويتم الإمساك بها.
نجح التحدي والصبر هذه المرة واجتاز العمال النقطة الحدودية لكن في كثير من الأحيان يتم الإمساك بهم بعض المطاردة ونصب الكمائن ويتم الاعتداء عليهم وسجنهم.

أضف تعليقك