بكلمة واحدة، ذات دلالات رمزية عديدة، دخل تعبير "النكبة" إلى الوجدان العام، واستقر عميقاً في الوعي الجماعي، على أنه أكثر مفردات اللغة بلاغة من دون منازع، وأشدها إيجازاً بالمطلق، في توصيف ما جرى في فلسطين العام 1948، من وقائع قتل وتهجير واحتلال وإحلال وترويع، وغيرها من النوائب التي حدثت بعيداً عن الأبصار في زمن ما قبل عصر الصورة الرقمية بوقت طويل، وزمن محطات البث الفضائي من عين المكان.
غير أن هذه الكلمة الموحية بأفظع الفظائع البشرية، التي ما تزال محفورة في الذاكرة المشتركة، تبدو اليوم شديدة التواضع، فقيرة المعنى، وباهتة إلى أبعد الحدود، أمام هول المشهد السوري، الذي تجاوز مصائب النكبة الفلسطينية القديمة بأشواط، ونطاق الكارثة العراقية المقيمة بدرجات، وفاقت تداعياته الرهيبة سقوف كل ما شهدته الحروب البينية والصراعات الداخلية، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، إن لم نقل إن وقائعه المروعة فاقت أسوأ الكوابيس.
عشية السنة السادسة، يبدو المشهد السوري المتغير من سيئ إلى أسوأ باطراد، طافحا بالاستعصاءات والمراوغات والموت الزؤام، لا يعد بالبشائر في المدى المنظور، حتى لا نقول إنه ينذر بمزيد من الويلات، رغم اجتراح عملية جنيف المستمرة في إجراء المناورات وخض الماء وتسوية الحسابات، والتهرب من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، بما في ذلك تعريف المشكلة القائمة، باعتبار أن التعريف نصف الحل، وأول الطريق للخروج من حمأة الصراع.
وأحسب أن علّة العلل الكامنة وراء تعقد الحالة السورية، وإطالة أمدها كل هذا الوقت، وتصعيدها من طور إلى طور أشد، ماثلة في عجز المنخرطين فيها، والمخاطبين بها، عن تشخيص جوهر المأزق الراهن، وإصرارهم على تعميق سوء الفهم المتعمد، بين من يصفها بمؤامرة كونية، وبين من يسميها حربا أهلية، وسط تجاهل هؤلاء وأولئك لحقيقة أنها ثورة شعبية، انفجرت في وجه نظام بوليسي مستبد، قوّضته من الداخل، وجردته من كل شرعية.
وكما يؤدي التشخيص الخاطئ من قبل الطبيب لحالة مريضه، أدّت تشخيصات اللاعبين في الميدان السوري إلى خطأ مماثل، وبالتالي إلى صرف الدواء غير المناسب، ما جعل الحالة تستفحل مع مرور الوقت، فيما ظل المريض في غرفة الطوارئ الخارجية، نهباً لاجتهادات أطباء تحت التدريب، يتمرنون عليه ويجربون معالجته بالمراهم، ويتجنبون إدخاله إلى غرفة العناية الحثيثة، شأن حالة كل فقير تعوزه دفعة نقدية لازمة لإجراء عملية جراحية مكلفة.
ومع أن مرور خمس سنوات كانت أكثر من كافية لإعادة إجراء المراجعات إشفاقا على العباد، وتبديل الرهانات خشية على البلاد، والسعي إلى الحد من فداحة الخسارات، إلا أن حالة الإنكار التام، وعمى البصيرة، والاستقتال على السلطة، أفضت إلى الانجراف أكثر فأكثر وراء وهم حسم الموقف بالقوة المجردة، حتى إن أدى ذلك إلى قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وهدم المدن والبلدات، وتمزيق المجتمع، وكل ما أنتجه الشعار المعبر عن الاستقواء "الأسد أو نحرق البلد".
وهكذا، أجد عشية السنة السادسة، أن أفضل افتتاح لأي حوار بهذه المناسبة -شرط ألا ينزلق إلى عبثية السجال، خصوصا مع المنافحين بيننا عن النظام الذي يتنفس بمضخة هواء إيراني، ويقف على ساقين روسيتين- بالقول إنه لم يعد هناك ما نختلف عليه بعد الآن؛ إذ دخلت سورية في الثقب الأسود، فضاعت وضاع معها البلد والجيش والمكانة والطفولة والدور والكرامة الإنسانية والنظام والليرة وحزب الله، في مواجهة ثورة مصابة بعدة أمراض، بعضها عرضي وظرفي، وبعضها الآخر غير قابل للشفاء.
وفي المقابل، فإن الحقيقة الأخرى المريرة، تتجلى كالشمس في رابعة النهار، وهي أن الليل السوري الطويل مقدر له أن يطول أكثر، وأن الدماء التي سالت بغزارة مرجح لها أن تسيل أغزر، وأن القادم أعظم مع الأسف الشديد. غير أن ذلك كله لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولا يحيي رميم العظام، أو يزعزع حتمية انتصار شعب كسر حاجز الخوف، وهدم جمهورية الصمت، وشب عن الطوق وبلغ نقطة اللاعودة، وبات مع مئة ألف مقاتل وأزيد، قوة غير قابلة للإمحاء، أشد مراساً وأقدر على مغالبة الصعاب التي ما تزال على الطريق. فليس هناك ثورة هزمت على مدار التاريخ.