لا يُعرف سوى القليل من المعطيات الصادرة عن وكالات أنباء مستقلة، لتكوين وجهة نظر وافية، تشخص الوضع السائل في حلب، وتعطي صورة عن الأوضاع الساخنة في المدينة المحاصرة. وليس لدى الخبراء العسكريين المهتمين بتطورات المشهد العسكري السوري، ما يكفي من الحقائق اليقينية للقيام بتقدير موقف موضوعي إزاء الحالة الراهنة في أكبر حواضر البلاد الشامية، الأمر الذي يفاقم من قدرة المراقب عن بعد على إجراء مقاربة متجردة من الآراء المسبقة، والقراءة الرغائبية.
غير أن أهم ما نعلمه عن اللحظة الحلبية المتجلية في هذه الآونة، أن المدينة المقسمة وقعت، في آن واحد، تحت حصارين متلازمين. أولهما، حصار عسكري، كان غير مستبعد منذ ستة أشهر، لدى إلقاء روسيا وإيران بثقلهما في الحرب على حلب. وثانيهما، حصار سياسي غامض، أنتجته متغيرات دولية وإقليمية متزامنة، وفّر تحققه المفاجئ أهم الشروط الممهدة لفرض طوق حربي حول أكثر من عشرين حياً تحت سيطرة كتائب المعارضة.
ومع أن الحصار العسكري لشرق حلب حقيقة لا مراء فيها، إلا أنها حقيقة غير نهائية، بل وقابلة للتبدل في أي مرحلة مقبلة (بدأت فعلاً)، استناداً إلى ما هو معلوم عن ترسانة عسكرية كبيرة لدى قوى المعارضة، وعما يتوافر لقادة الكتائب في هذه المدينة، من آلاف المقاتلين المدججين بالخبرات المتراكمة، وشتى صنوف الأسلحة، وبروح قتال خلاصية، تم اختبارها في الميدان طوال نحو أربع سنوات حافلة بمشاهد الكر والفر، وفق ما تمليه دروس الحرب غير المتماثلة.
لذلك، فإن الحصار العسكري لثاني أكبر المدن السورية، لا يثير القلق لدى العسكريين المطلعين على بواطن الأمور، ولا يبعث فيهم الخشية على مستقبل المدينة، التي تعد إحدى أهم قلاع الثورة السورية، وإن كان ذلك يخلق أشد الهواجس حيال أوضاع المدنيين القابعين تحت وطأة الغارات والقصف المدفعي، وشح الموارد المعيشية. إذ تضم المدينة آلاف المدنيين، التي قلب دخولها المتأخر على الحراك الثوري توازنات المعادلة الداخلية، وجعل من حلب أكبر الروافع لإدامة الثورة واجتيازها عنق الزجاجة.
وعليه، فإن الحصار السياسي على حلب أشد وطأة من حصارها العسكري، نظراً لما ينطوي عليه هذا الطوق غير الملموس، من مصاعب خارجة عن نطاق السيطرة، وما يشي به من تحولات استراتيجية تجري في المحيط المجاور، حيث لا قدرة للمقاتلين والمعارضة السياسية على التأثير في اتجاه التطورات الإقليمية، الأمر الذي يبيّن مدى طول باع اللاعبين من خارج رقعة الاشتباكات، في التحكم بمسارات صراع محلي، آل إلى صراع دولي، بكل معنى الكلمة.
إذ فيما يبدو الاستيلاء على كامل حلب معركة متعذرة تماماً، لما تجبيه من خسائر بشرية لا طاقة للمهاجمين على احتمال تكاليفها الباهظة، وأن اقتحام عمائر المدن الكبيرة مسألة تخشى أعتى الجيوش الجرارة الإقدام عليها، تبدو العزلة السياسية التي انتجتها الاستدارة التركية نحو الداخل، بعد الانقلاب الفاشل، وعززها الخواء الدبلوماسي الأميركي، والمقدر له أن يتفاقم مع بدء حملة الانتخابات الرئاسية، نقول تبدو مضاعفات هذا الحصار على مآل معركة حلب الراهنة، أشد خطراً من تبعاته العسكرية.
لعل ما يبعث الطمأنينة لدى الحلبيين، أن تحالف المليشيات المذهبية وقف عاجزاً عن اقتحام حي جوبر أو داريا، وبلدة صغيرة مثل الزبداني، وغيرها من مئات القرى في الأرياف السورية، وأن لديهم من الرجال والسلاح والتجربة، أفضل مما كان لدى حمص، التي شكلت في الوجدان السوري سابقة مؤلمة، وأن في حوزتهم من الممكنات أكثر مما لدى مقاتلي الغوطة الشرقية، حتى وإن ضاعف سلاح الجو الروسي حملته التدميرية، وأضاف المزيد من الوقائع إلى سجله "المشرف" في احترام حقوق الإنسان.
هكذا، فإن قصف أحياء وأسواق ومستشفيات حلب، وحصارها بالكامل، قوبل بما يشبه التسليم بالأمر الواقع؛ إذ لم يكد يؤدي ذلك إلى استنكار عاصمة عربية أو أوروبية، ناهيك عن صمت واشنطن المريب، حتى لا نقول رضاها. وهو ما يعني أن هناك إذعاناً تاماً لاندفاعة الدب الروسي، ربما لجره نحو فخ أفغاني جديد، وربما أيضاً لحمله على عقد مساومة في نطاق دولي أشمل، الأمر الذي يوضح كم أن الحصار السياسي على الشهباء أشد وطأة عليها من الحصار العسكري الآيل للسقوط وشيكاً.