جنوب سورية: الدفاع والردع

جنوب سورية: الدفاع والردع

يبدو أن حالة الهدوء والطمأنينة التي اتسمت بها الأحوال في جنوب سورية حتى وقت قريب، قد انتهت بالنسبة لأطراف عديدة من بينها الأردن، أو على الأقل لم تعد تقديرات الموقف الاستراتيجي وطرق التعامل مع الصراع في هذا الجزء من خريطة الأزمة السورية كما كانت في السابق. وأردنيا، كانت هناك عوامل عديدة تدفع نحو مراجعة استراتيجية عميقة؛ ثم جاء الهجوم الإرهابي على مركز خدمات اللاجئين في الركبان، في رمضان الماضي، ليشكل الشعرة التي قطعت مع الماضي القريب، ويبدو أنها ستؤسس لبداية جديدة لإدارة الصراع من المنظور الأردني حول الحدود الشمالية.
هناك لاعبون كثر يصنعون الأحداث والتحولات في الجنوب السوري، إلى جانب أطراف أخرى لديها حساسية عالية لأي تحولات مفاجئة أو تغير كبير أو صغير في قواعد الاشتباك السائدة. وقد حافظت الأطراف المجاورة أو ذات المصالح الواضحة، وهي الأردن والولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، على تفاهمات ومبادئ لإدارة الصراع جنوب وشرق دمشق. لكن المؤشرات الميدانية والسياسية بدأت تأخذ طابعا جديدا أكثر وضوحا منذ بداية هذا العام.
مصادر القلق الأردني ترجمت عمليا بعد هجوم الركبان بإغلاق الحدود الشمالية والشرقية. وسبقت ذلك تحولات استراتيجية مهمة، أبرزها: أولا، اقتراب المزيد من التنظيمات المتطرفة من الحدود الأردنية السورية، بعد أن استطاع بعض هذه التنظيمات ضمان موطئ قدم في الجنوب السوري، ومنها تنظيم "داعش" وبعض الألوية المنتمية له، مثل لواء "شهداء اليرموك" الذي سيطر على عدد من القرى بمحيط درعا في فترات متفاوتة، إلى جانب التمدد الذي يأخذ شكل التقدم والتراجع لألوية تنظيم "جبهة النصرة". ثانيا، نهاية الرهان على التنظيمات المعارضة المسلحة التي توصف بالمعتدلة؛ فكما هو معروف منذ العام 2014، عززت المساعدات والتنسيق والدعم التي قدمتها دول عربية وغربية من سيطرة قوى معارضة معتدلة، وبسط نفوذها على نقاط ومساحات استراتيجية في الجنوب السوري، على رأسها "الجيش الحر". لكن يبدو أنه ليس الغرب وحده الذي فقد الثقة بهذه التنظيمات، فالأردن أيضا يشعر بالخيبة من عدم قدرة هذه التنظيمات على الحفاظ على المكتسبات التي حققتها على أقل تقدير. ثالثا، ازدياد النفوذ الإيراني المباشر وشبه المباشر في بعض المناطق الجنوبية؛ فهناك قوات موجودة بالفعل، وأخرى أصبحت لديها القدرة على التجاوز نحو نقاط تماس حرجة، سواء في محيط درعا أو القنيطرة، تتبع لحزب الله أو الحرس الثوري الإيراني، ويتردد حديث عن وجود مليشيات أفغانية وطاجيكية ذات ولاء إيراني. رابعا، الأردن، كما الحال لدى أطراف أخرى، يعاني حالة السيولة العالية في الأزمة السورية، حيث لا يمكن مسك الأطراف الفاعلة على جهة واحدة؛ فالظاهرة المتكررة هي تبدل الولاءات للعديد من القوى وحتى القيادات. وقد استطاع الأردن نسج علاقات قوية في تلك المناطق، لكن ما تمسي عليه قد لا تجده في الصباح.
إن الذهاب وراء الرأي القائل بأن الأزمة السورية في طريقها للنهاية، قد لا يكون في محله؛ فما تزال المنطقة حبلى بأحداث ومفاجآت عديدة. وهذا يقود إلى أن استراتيجية الحياد الإيجابي لصالح الشعب السوري التي مارسها الأردن منذ العام 2011، ما تزال متماسكة. والجديد هو ترسيخ أولوية صد التنظيمات الدينية المتطرفة ووقفها بأي ثمن، وحماية الحدود الشمالية، سواء من مصادر التهديد الصلبة المباشرة أو المصادر الأخرى. وهذا ما قد يجعل الأردن يجد نفسه ذاهبا نحو استراتيجية الردع بدلا من الاكتفاء باستراتيجية الدفاع التي اتسمت بها التفاعلات الأردنية حيال الأزمة السورية إلى هذا الوقت.
وقد لا يعني خيار الردع التدخل المباشر، كما قد لا يعني العودة لخيار إيجاد منطقة عازلة على الحدود الأردنية السورية، وهو الخيار المر بالنسبة للأردن والذي رفضه منذ فترة مبكرة للأزمة السورية. إذ ازدادت أهمية فكرة المنطقة العازلة بالنسبة للاردن قبيل هجوم ما سمي "عاصفة الجنوب"، على خلفية استمرار تدفق التنظيمات المتطرفة نحو الجنوب. وعلى كل الأحوال، يبدو هذا الخيار لا يصب بأي شكل في المصالح الأمنية والاستراتيجية الأردنية في هذا الوقت؛ فالفصائل المسلحة التي تبات متحالفة وتصحو في اليوم التالي متقاتلة، لا يمكن ضبط سلوكها القتالي على الحدود، ولا يمكن للأردن أن يلعب دور الشرطي في الجنوب السوري.
إن المحتمل هو استراتيجية بديلة تقوم على المبادرة، سيكون لها هدفان: الأول، حماية الحدود الأردنية. والثاني، إنساني لحماية مئات آلاف اللاجئين.

أضف تعليقك