الاستدارة الأوروبية نحو الأزمة السورية
الكل يتذكر موقف الدول الأوروبية الفاعلة في بداية الأزمة السورية، إذ اتسمت بالحدية والسقوف العالية تجاه بشار الأسد، وتمثلت في المطالبة برحيله باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لحل الأزمة السورية. الفظائع التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري والمعارضة كانت تحرج هذه الدول، وبخاصة فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة، ودفعتها لتبني هذا الموقف المتشدد. كذلك، فإن تهاوي الأنظمة في المنطقة دفع هذه الدول إلى الاعتقاد بأن النظام سوف ينهار خلال أشهر، فاختارت هذا الموقف، وانحازت أخلاقيا للثورة السورية والشعب السوري. لكن حقيقة الأمر أن هذه الدول لم تكن قادرة على تبني أو اتباع سياسة تؤدي إلى إنجاح مطالبها، باستثناء التدخل المباشر الذي رفضته هذه الدول منذ البداية، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية.
لم تترك هذه السياسة المجال سوى لدعم المعارضة التي تحارب النظام السوري. لكن سرعان ما اكتشفت الدول الغربية أن القوى المعارضة المسلحة كانت في أغلبيتها حركات متطرفة ومتشددة، لم تستطيع تبرير دعمها. بالمقابل، لجأت إلى ترويج سياسة دعم قوى المعارضة المعتدلة التي لم تستطع أن تكون حركة متماسكة سياسياً أو أيديولوجياً. ونتيجة لذلك، لم تستطع هذه الدول تزويدها بالأسلحة الضروريه لمجابهة النظام، خوفاً من انتقالها لأيدي المعارضة المتشددة.
نتيجة للضعف الأميركي والأوروبي في هذا المجال، أصبحت القوى الإقليمية أكثر تأثيراً بمجريات الأزمة السورية، وشهدت سورية أكبر اصطفاف وصراع مذهبيين في المنطقة منذ فترة زمنية طويلة. ودعمت القوى السنية الإقليمية المعارضة المسلحة بقوة، كما دعمت القوى الشيعية الإقليمية النظام السوري. وفي ظل هذا الوضع، فقدت الثورة السورية روحها، وأصبح الصراع على السلطة هو سيد الموقف.
لكن بروز الحركات المتشددة في سورية، وبخاصة "داعش"، بدأ يشكل تهديداً للسلم الإقليمي، وتحديداً مع إعلان التنظيم تأسيس ما سماه "الدولة الإسلامية".
الاستدارة في الموقف الأميركي والأوروبي حصلت بعدما بدأ "داعش" تحديداً ضرب مصالح أوروبا وأميركا، وبعدما أصبح التنظيم يمثل تهديداً مباشراً بعد تنفيذه عمليات في قلب عواصم الدول الأوروبية. لقد هزت ضربات "داعش" أوروبا، ووضعتها في وضع محرج أمام شعوبها وهي تقف عاجزة عن صد الهجمات في عقر دارها وبخاصة في فرنسا.
بالطبع، سبق ذلك التدخل الروسي في سورية الذي أدى إلى تقوية النظام ومن ثم إضعاف فكرة الحسم العسكري ضد النظام. وأدى، ثانياً، إلى كشف مدى الدعم الذي تتلقاه القوى المتطرفة، وبخاصة "داعش" نفسها، إذ إن التحالف الدولي الذي تقودة الولايات المتحدة لم يؤد إلى القضاء على "داعش" أو حتى إضعافه، لا بل استمر بالتمدد.
لقد كانت العقدة الأميركية-الأوروبية والإقليمية في إيجاد تسوية لا يشارك فيها الأسد. وقد فشلت هذه الاستراتيجية فشلا ذريعاً بسبب التردد الأميركي الأوروبي في التدخل المباشر من خلال إرسال قوات على الأرض أو دعم المعارضة المسلحة بشكل فعلي.
في الأيام أو الأسابيع الماضية تغيرت نبرة الخطاب الأوروبي، وبخاصة الفرنسي الذي كان الأكثر تشدداً ضد النظام السوري، ولم يعد رحيل الأسد مطلباً للبدء بمسار التسورية السلمية للأزمة السورية، وأصبح بقاؤه مرحلياً أمراً مقبولاً لا بل مطلوباً.
إن الاستدارة في الموقف الأوروبي والأميركي كانت نتيجة مُباشرة لفشل السياسات الغربية في سورية، ونتيجة لضرب الإرهاب عقر دار أوروبا، وأخيراً نتيجة للتدخل الروسي في سورية.
قطار التسوية للأزمة السورية بدأ في فيينا ولن ينتهي بالاجتماع المزمع عقده في نيويورك الذي يغيب عنه السوريون.
المعضلة الآن في التوصل لحل سلمي للأزمة السورية، هي في موقف الدول الإقليمية التي لم تقبل التغيير في الموقف الأميركي/ الأوروبي، وما تزال تُصر على رحيل الأسد قبل التسوية بالسلم أو بالحرب كما أعلن البعض.
إن نجاح التسوية السلمية يعتمد بدرجة كبيرة على مواقف الدول الإقليمية الأكثر تأثيرا على الأرض، إذ إن ردم الهوة بين الموقف الدولي شبه الموحد والمواقف الإقليمية هو التحدي الذي يواجه التوصل إلى حل سلمي في سورية.