قصة "حي جناعة" كما يرويها مُعمّر من ساكنيها ناهز عامه المئة

قصة "حي جناعة" كما يرويها مُعمّر من ساكنيها ناهز عامه المئة
الرابط المختصر

 

رغم بلوغه السابعة والتسعين من العمر، إلا أن ذاكرة الحاج "خميّس"، أحد قدامى ساكني جناعة، لا تزال تحتفظ بصورة هذه المنطقة كما وقعت عيناه عليها أول مرة قبل نحو خمسين عاما.

 

كانت حينها سفوحاً شبه خالية من البشر، يتهادى تحتها السيل وسط غابات البرسيم والقصب الكثيفة، ولم يكن أحد آنذاك يستطيع تخيل أن تصبح ما هي عليه الآن، من حيث العمران والكثافة السكانية التي تعد الأعلى في المملكة.

 

قبل مقدمه إلى جناعة واستقراره فيها، كان الحاج محمود إبراهيم خميس، والمعروف في الحي باسم "خميّس"، قد تجرع مرارة النكبة ومن بعدها النكسة سنتي 1948 و1967، كما يروي لنا.

 

وقال الشيخ الذي ولد عام 1919 بحسب ما يظهر في (كرت المؤن) الذي يحتفظ به منذ نزح إلى الأردن مع زوجته وأولادهما هرباً من بطش الغازي الإسرائيلي "خرجنا من بيت نتيف (قرب الخليل) سنة 48 وأقمنا في حلحلول، ومنها انتقلنا إلى (قريتي) الخضر وبيت ساحور في بيت لحم، وعندما وقعت نكسة 67 جئنا إلى الزرقاء".

 

وأضاف "أقمنا بداية في مخيم من الصفيح في الجبل الأبيض قبل أن ننتقل إلى جناعة، وكانت خالية ما فيها بيت عندما وصلناها، وكان هناك رجل شيشاني يملك أراض واسعة يزرعها، ولم يتجاوز سعر متر الأرض شلن (خمسة قروش)، لكنني لم اشتر شبراً في ذاك الحين لأنني كنت أصبو إلى العودة لبلادي، والتي لا زلت أسال الله أن يتوفاني فيها".

 

وتابع خميّس "وبدلا من ذلك عمدت إلى ابتياع خيمة من عمان بثمانية دنانير ونصبتها في جناعة بعدما استأذنت الشيشاني الذي سمح بوضعها في أي مكان أريده من الأرض دون مقابل بعدما قال لي: الأرض لله يا ابني".

 

وأوضح أنه قرر العيش في الخيمة لأن قلبه كان لا يزال يحدثه بالرجوع إلى الوطن، مع أن الشيشاني كان يؤكد له انه يتوهم، وأن "أحدا لن يعود".

 

كانت السنوات الأولى في جناعة صعبة كما يصفها خميّس الذي بات له اليوم 165 من الأبناء والأحفاد، أكبرهم ابنه هاشم الذي يبلغ الآن الخامسة والسبعين من العمر، وأصغرهم حفيد في شهره السابع، وجميعهم يقيمون في محافظة الزرقاء.

 

ويشرح قائلا "أخذت اتضمن محاصيل البرسيم وأقطفها بمساعدة الأولاد والبنات ثم أبيعها لأصحاب المواشي، وكنا حينها نعيش حياة بسيطة نعتمد فيها على الحطب لتدفئة الخيمة شتاء، ونجلب حاجتنا من الماء في جالونات من نبع قريب في المنطقة".

 

ومع بؤس الحياة في تلك الأيام، إلا أن تكاليفها كانت متواضعة أيضا، بحسب ما يتذكر، فقد كان ثمن الشاة 45 قرشا، فيما يباع قنطار القمح الذي يزن 300 كيلوغرام بدينارين إلا ربعا، والقنطار من الذرة أو الشعير بما بين 40 و50 قرشاً.

 

لم تكن قد مضت سوى أعوام قليلة على استقراره مع أسرته في جناعة عندما توفي الشيشاني صاحب الأرض، فوجد خميّس نفسه أمام مأزق اضطر معه لدفع ثمن الأرض للورثة في ضوء عدم حيازته أية وثائق تثبت أنها هبة من صاحبها الأصلي.

 

وعن هذا الموقف يقول "كان ثمن الأرض قد ارتفع في ذلك الحين إلى اثني عشر ديناراً، فاشتريت 240 مترا فقط، وودفعت ثمنها بالأقساط حالي حال غيري من الناس"، مضيفا إنه لم يلبث بعد ذلك أن استغنى عن الخيمة وبنى بمساعدة ابنائه وزوجته "سميحة" غرفة صغيرة على الأرض كانت جدرانها من الطين والقش وسقفها من القصب.

 

وتتذكر زوجته أم هاشم الأيام الغابرة قائلة "كانت جناعة حينها مكبا لنفايات المخيم وتعج بأسراب الذباب، وكنت والأولاد نحفر الأرض لتوفير الرمل اللازم للبناء، ثم ندفن النفايات في الحُفر حتى لا تجلب علينا مزيدا من الذباب".

 

وتضيف "وبدوري قمت ببناء طابون من الطين لأخبز فيه الدقيق الذي نحصل عليه من وكالة الغوث، ولأن المنطقة حينها كانت تزخر بالزبل (الروث) فقد كان الأولاد يجمعونه ويجلبونه لي على ظهر حمار نستعيره من أحد الجيران، فأوقد به الطابون".

 

وأيضا تتحدث إحدى بناته، وتدعى فاطمة عن طبيعة حياتهم في ما مضى، وتقول "كان عندنا طيور وخراف، وحولنا الخضرة والماء، وكنت أخرج في الفجر بصحبة أخي إبراهيم لنساعد ابانا في مزارع البرسيم التي يتضمنها، ونعود منها محملين بحزم يقوم إبراهيم ببيعها لأصحاب الماشية في المنطقة".

 

وتابعت "ولما تراجع الشغل في البرسيم وخفت المياه تحول أبي إلى عمل جديد، حيث أصبح يصنع مناهل خرسانية ويبيعها للناس الذين كانوا قد بداوا يقبلون على شرائها مع انتعاش حركة البناء في جناعة".

 

وتدخل خميّس هنا ليوضح الظروف التي دفعته إلى هذه المهنة الجديدة "أصبح العمل في المزارع لا يكفي لتوفير احتياجات عائلتي التي باتت تضم 12 نفرا، فوجدت ضالتي في صنع المناهل، وبدأت أبيع الواحد منها بدينار أو بدينار ونصف، تبعا لكمية الحديد والشميمتو (الإسمنت) الداخلة في صناعتها".

 

أول من جاورهم في جناعة كانت عائلة رجل من قرية العباسية بالضفة الغربية يدعى عبد الرؤوف كما يقول خميّس، ثم جاءت بعدها عائلة رجل آخر من صوريف يكنى "أبو عماد اسماعين"، ولم يكن هناك مكان يشترون منه احتياجات بيوتهم سوى دكان صغيرة افتتحها شخص يدعى أبو نبيل عند أطراف الحي الذي كان آخذا في التشكل والنمو.

 

واليوم، وبعد مضي نحو خمسين عاما على وصول خميّس إليها، فقد أمست جناعة حيا ضخما يقطنه نحو 75 ألف نسمة، يشغلون 150 دونما تمتد بين السيل غربا وطريق الأوتوستراد الواصل إلى عمان من الجهة الشرقية، وحي قصر شبيب شمالاً، ومنطقة ضاحية الثورة العربية الكبرى (وادي الحجر) جنوبا.

 

ولعل هذا الموقع الإستراتيجي لجناعة هو ما جعل تلك الأعداد الكبيرة من البشر تتقاطر للسكن فيها على مدى العقود الماضية، لكن غياب الرقابة والتنظيم أدى إلى تشوهات عمرانية كانت كفيلة بوضعا في مصاف أكثر المناطق عشوائية على مستوى البلاد.