سودانيون في الأردن لاجئون بانتظار التوطين

سودانيون في الأردن لاجئون بانتظار التوطين

على مدار شهرٍ كاملٍ، ظل أطفال اللاجئ السوداني خالد* يخلدون إلى النوم قرابة الساعة السادسة مساءً رغماً عنهم، فالظلام يسود البيت المتواضع شرقيّ العاصمة عمّان بعد مغيب الشمس، وقد فُصلت الكهرباء عن منزلهم لتراكم الفواتير.

 

الكهرباء ضرورية، لا يجادل خالد في ذلك، ولكنه يقول "ياكلوا ويشربوا حاجات يعني ضرورية أكثر"، والطفل لا يفهم "أنت مش شغال ولا مثلا أنت عندك ولا ما عندك"، ويظل يلح على أولوياته، الأمر الذي اضطره إلى صرف المساعدة النقدية التي يتقاضاها من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على هذه الأولويات وتأجيل دفع الفواتير لشهورٍ عديدة.

 

يخبرنا خالد أنه خاطب موظفي شركة الكهرباء حين أتوا إلى منزله قائلاً "يا أخي عارفين أنه الكهرباء تراكمت علينا، فما قادرين نسدد، بس لو سمحتوا اتركونا لحد عندنا مساعدة بتجي، نحاول نخفض من صاحب الدار وندفع ليكم انتوا شي.. قال والله احنا ما علينا شي احنا مأمورين، قلنا لهم خلص اتفضلوا".

 

بعدها بأيام قليلة، قام أحد أطفاله ذات ساعة مظلمة من مكانه، ولم ينتبه إلى الطاولة التي ارتطم بها، فكُسرت يده بحسب التقارير الطبية التي اطلعت كاتبة التقرير عليها. يتمنى خالد لو أنه قادر على العمل بحرية، لكان خصص المساعدة للإيجار والكهرباء، وتكفل هو، بعرق جبينه، بمأكل ومشرب العائلة. بيد أن للعمل حكاية أخرى في بلدٍ لم يقصد اللاجئ السوداني الاستقرار بها، ولكن إعادة توطينه في بلدٍ ثالثٍ استغرقت أكثر ممّا توقع هو وأبناء بلده الفارون من حرب دارفور!

 

 

الأمل الوحيد معلّق على "إعادة التوطين"

تجمّع المئات من السودانيين في أواخر عام 2015 أمام مقر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكان مطلبهم الرئيس البحث عن فرص لإعادة التوطين في بلدٍ ثالثٍ. بيد أن عواقب اعتصامهم كانت وخيمة، فقد قامت الحكومة الأردنية بإبعاد السودانيين المعتصمين في شهر كانون الأول من العام ذاته، بعد فشل محاولاتها بإقناعهم بفض الاعتصام طواعية.

 

تُعرّف المفوضية عملية "إعادة التوطين" على موقعها الالكتروني على أنها "نقل اللاجئين من بلد لجوء إلى دولة أخرى وافقت على قبولهم ومنحهم الاستقرار الدائم في نهاية المطاف. كُلفت المفوضية بموجب نظامها الأساسي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعادة التوطين باعتبارها أحد الحلول الدائمة الثلاثة".

 

بحسب أرقام المفوضية لشهر شباط لعام 2019، يعيش في الأردن 6146 سودانياً. بينهم من ينتظر أن تأتيه مكالمة هاتفية تبشره بحلول موعد مغادرته للبلاد، تماماً كما حدث مع من تحتفي المفوضية بقصصهم على موقعها. يعيد الناطق الإعلامي باسم المفوضية محمد الحواري التأكيد في تصريحاته على أن برنامج إعادة التوطين حول العالم بالكاد "يساند ١٪ من اللاجئين، وهنا في الأردن من إجمالي اللاجئين المسجلين هناك ١٠٪ هم بحاجة ماسة لإعادة التوطين".

 

ويشرح لنا الحواري أن "الدول التي تستقبل اللاجئين لإعادة التوطين هي من يحدد الوقت لأن الإجراءات تتم من خلالها"، ويضيف أنه "في السنوات الاخيرة تغيرت الأوضاع فيما يخص إعادة التوطين لأمريكا، وهذا سبب رئيسي في التأخير، لكن لا يمكننا إعادة تحويل الملفات لدول أخرى".

 

من بين اللاجئين السودانيين الذين التقيناهم، هناك من حصل على فرصة مبدئية لإعادة توطينه في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يستلم الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب منصبه. بحسب قرار الحظر الأول الذي صدر في شهر كانون الثاني من العام 2017، منعت الولايات المتحدة دخول مواطني إيران، والعراق، وسورية، واليمن، والصومال، والسودان وليبيا من دخول الولايات المتحدة لمدة 90 يوماً، وأوقفت إعادة التوطين، كما تم منع دخول اللاجئين السوريين إلى أجلٍ غير محدد قبل أن يُعاد النظر في القرار.

 

بعد أن طرأت تعديلات عليه، رُفع الحظر عن السودان في شهر أيلول من العام نفسه. بيد أن هؤلاء اللاجئين يؤكدون أنهم لم يتلقوا أي مكالمة بخصوص إعادة توطينهم منذ استلام الرئيس لمنصبه. كلما راجعوا الجهات المسؤولة، قيل لهم "ما عليك إلا أن تصبر"، الأمر الذي يزداد صعوبةً، فيكاد يستحيل بنظرهم!.

 

لا يُنكر خالد أو صديقه سامي*، الذي يشاطره الهم ذاته، أنهما يحصلان على مساعدة نقدية شهرية من المفوضية، ولكنها مساعدة "رمزية" في عاصمة هي الأغلى عربياً من حيث تكاليف المعيشة. يحصل كلاهما على مساعدة تبلغ حوالي 250 ديناراً شهرياً، يدفعان منها ما بين 100- 120 ديناراً للإيجار فقط، ثم لا يفلح أي منهما في تقسيم القسم المتبقي لتغطية نفقات الأكل، والشرب، والكهرباء ومصاريف الأطفال الأخرى ليكتفوا منها.

 

بحسب تصريحات الحواري، يحصل 1300 لاجئاً سودانياً على مساعدة نقدية من المفوضية، وأضاف أنهم يواصلون " كمفوضية مساندة السودانيين بكل ماهو متاح لدينا بالرغم من التحديات الصعبة في التمويل وضعفه".

 

من خلال عملها مع اللاجئين من مختلف الجنسيات، تحاول منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية تسليط الضوء على معاناة الفئات الأكثر تهميشاً بينهم. في تقريرٍ سابقٍ لها بعنوان "تقديم الجنسية على الحاجات: تلبية حاجات اللاجئين الصوماليين والسودانيين أثناء الأزمة السورية"، أشارت المنظمة إلى أنه "بالنسبة للاجئين الصوماليين والسودانيين تحديداً، هناك اتجاه واحد واضح: لديهم حاجات يومية جسيمة بشكل استثنائي ومتكررة، وتزيد هذه الحاجات من احتمالية تورط الصوماليين والسودانيين في ممارسات غير قانونية بفعل اليأس".

 

ويضيف التقرير ذاته بأن "اللاجئين الصوماليين والسودانيين يُصنفون بشكل مستمر على أنهم اللاجئون الأكثر ضعفاً في الأردن. وعلى الرغم من ذلك، لا زال هؤلاء يعيشون في ظلال الأزمات الأخرى، إذ يستفيدون بشكل ضئيل نسبياً من المساعدات المباشرة حيث تُخصّص الموارد بشكل مستمر لتغطية حاجات أخرى. هذه الحالة ليست جديدة بفعل الأزمة السورية وحسب، ولكن حتى في وقتٍ سابقٍ، فقد كان الحال مشابهاً في ظل الأزمة العراقية وغيرها من الأزمات الإقليمية واسعة النطاق".

 

حتى الصعوبات المعتادة التي قد تعترض طريق أي فرد عادي تزداد صعوبةً بالنسبة لهذه الفئة من اللاجئين، وذلك نظراً للظروف المذكورة، بما فيها "غياب الموارد المالية لديهم"، بحسب التقرير.

 

تعقيباً على ما سبق، تقول لنا رئيسة المنظمة سمر محارب أن "حالة الفقر التي يعيشها هؤلاء شديدة، أذكر أنه عندما يحصل الشباب منهم على منح، يكون السبب الأكبر لترددهم هو التفكير في كيفية العيش، لم يكن لديهم أي مدخرات أو أي شيء أو حتى الملابس".

 

العمل مخاطرة بلا طائل

تحت وطأة هذه الضغوط اليومية، يضطر لاجئون سودانيون كثر إلى العمل، حتى وإن كانوا يعملون بصورة غير قانونية. في السنوات التي خلت، صرّح أمين عام وزارة العمل السابق حمادة أبو نجمة بعدم وجود نصوص قانونية تمنع عمل اللاجئين، وأن "الجنسية أو اعتراف اللجوء"لا يشكلان فرقاً.

 

واليوم، يُخبرنا الناطق الإعلامي باسم وزارة العمل محمد الخطيب أن هناك 331 عاملاً سودانياً حصلوا على تصاريح عمل من الوزارة في عام 2017، وارتفع هذا العدد ليصل إلى 340 عاملاً في عام 2018. هؤلاء ليسوا بالضرورة لاجئين، وقد يكونون من المواطنين السودانيين المقيمين في البلاد منذ عشرات السنين.

 

يشرح الخطيب بأن السوداني "بيجي زيارة، عشان أمور صحية، أو بيجي معه مرافق" وهو ينتمي إلى الجنسيات المقيدة التي يترتب عليها غرامات في حال إقامتها لمدة أطول من المقرر في الأردن، ويضيف "أساساً يُكتب على جواز سفره "لا يجوز أن يعمل"، فكيف أصدر له تصريح عمل؟".

 

وفي حال لم يُكتب على جواز سفره هذه العبارة، فـ"يأتي لإجراء معاملة عادية، يقدم المعاملة لدينا، ثم تحول إلى وزارة الداخلية للحصول على الموافقات الأمنية، وهو أمر معروف، إذا حصل على موافقات أمنية فليس لدينا أي مشكلة إذا كان يحق لهذا العامل أن يعمل بهذه المهنة".

 

بحسب محارب، هناك "تمييز دائماً نتحدث عنه، هناك تمييز لصالح اللاجئ السوري أو الجنسية السورية، فتحوا لهم مهناً من أجل التشجيع، مثل قطاع الزراعة، و قطاع الإنشاءات أو العمل مع المنظمات مثلاً، بإمكانك أن تستخرج تصريح عمل للسوري، ولكنه مستحيل للسوداني".

 

بطبيعة الحال، لم يصل سامي وغيره كثر إلى أبواب الوزارة لتقديم معاملة عادية والحصول على تصريح عمل، خوفاً من التبعات التي يتوقعونها، ولكنهم لا يستطيعون الجلوس في المنزل مكتفي الأيدي عندما تكون حاجاتهم اليومية بهذا الإلحاح، فيحاولون الخروج إلى سوق العمل بأي ثمن، محاولة يصفها سامي الذي وقع بين أيدي شرطة الوافدين أكثر من مرة بـ"المخاطرة" بلا طائل.

 

في أسوأ الحالات، قد تعمل مع شخص لا تعرفه و"تبذل جهدك عالفاضي، لو ما أعطاك ما بتقدر تعمل أي اشي". وفي أفضلها، قد تعمل وتتقاضى أجراً، ولكن "لو اتمسكت، يمكن المصروف اللي عندك هنا حاط لولادك 30 أو 40 ليرة، بتكون مواصلات يعني حتكون مواصلات التاكسي لزوجتي عشان تروح مكتب العمل عشان تروح الإقامة والحدود عشان تقدر تعمل إجراءات وتطلعني فبتروح كلها".

 

لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يضطر أن يدفع سامي حينها مبلغاً من المال للكفيل أردني الجنسية الذي يأتي لمساعدته، فيأخذ "100 دينار أحيانا 50 حسب معاملته هو معاك يمكن حن على وضعك". بالمحصلة، يدفع بيده اليسرى ما يكسبه بيده اليمنى، ويعود خالي الوفاض.

 

يقول الخطيب أنه في حال ضُبط لاجئ سوداني مخالفاً لقانون العمل، لا يتم إصدار قرار بتسفيره، وإنما تكتفي الوزارة بتوقيعه على التعهد مراعاةً لظروف بلده الأم. هذا هو التعهد الذي وقعه سامي مرة تلو الأخرى، حتى استغرب أحد أفراد الشرطة من إصراره على المحاولة وعدم اقتناعه بالكف عن محاولة العمل، فلم يعرف سامي بمَ يجيب!

مضايقات عنصرية متكررة

لا يُنكر خالد أنه يستطيع استئجار بيت آخر في المنطقة ذاتها بإيجار أقل، ولكنه مضطر، بحسب قوله، للسكن في المنزل الأقرب بينهم إلى مدرسة أطفاله، حتى يقلص مسافة المشي خوفاً من تعرضهم لمضايقات في الشارع، وقد شهد تعرضهم للضرب بأم عينه.

يقول خالد "أولادنا بيعانوا معاناة.. ولدي الصغير بيدرس في الروضة بيجي يقولي يابويا ليش أنا بيقولوا لي يا أبو سمرة.. بقوله لا أبو سمرة حاجة سمحة.. عشان بس أخفف له".

 

ملّ سامي هو الآخر من مراجعة الناس والجيران بعد تعرض أي من أطفاله للضرب. يعتذر الأهالي له، ويعدون بمعاقبة الأطفال، ولكن لا أحد يكترث بعدها، بحسب وصفه، الأمر الذي أقنعه بأنه "ما في حل بتاتاً إلا هو تكون معاهم تكون مراقبهم". يضطر اليوم إلى منع أطفاله من الخروج من المنزل نهائياً إلا برفقته، فيقول عن أحدهم "ما يقدر يلعب بيضربوه حتى قبل يومين بيقولي يا أخي ليش الأردنيين مرتاحين بيلعبوا في الشارع بيمشوا أي مكان احنا ما بنقدر نلعب ليش؟".

 

تُلاحظ محارب أن اللاجئين السودانيين، والصوماليين كذلك، يعانون من  صعوبة الاندماج في المجتمع، فيتعرضون لتمييز آخر "لا من قبل السلطات، وإنما من قبل المجتمع أو القطاع المشغل، فتجد أنهم ينظرون إلى أصحاب البشرة السمراء على أنهم يستحقون مهن أقل قيمةً أو رواتب أقل أو يعتبرون أنهم أقل ثقافةً".

وتضيف بأنهم "يتعرضون للتنمر وللعنف أيضاً.. من خلال خبرتنا، نعرف شابين سودانيين انتحرا في الأردن" لأسباب مشابهة. وقد حاول لاجئ سوداني آخر تعريض نفسه للخطر في شهر آذار الفائت، قبل أن تتمكن السلطات المعنية من السيطرة على الوضع، ويؤكد الحواري لنا أنه "لم يحدث له شيء بتاتاً".

 

يُدرك سامي وخالد أنهما قد يتعرضان لمضايقات مشابهة في الدول التي يأملان أن يُعاد توطينهما بها، ولكن ستكون ردة فعلهما مختلفة. بالنسبة لـخالد مثلاً، لو حصلت هذه الحادثة في دولة ثالثة، فـ"أنت بتكون زيه زيك، لو مشيت لبلد ماخذ فيها الجنسية أو على الأقل عندك فيها الإقامة الحرة أو المطلقة أنت ممكن تتصرف غير هذا، لك الحق ممكن ترحل من هذي المدينة لمدينة ثانية.. هون محصور"!.

 

يظل لاجئون سودانيون كثر في الأردن يشعرون كما يشعر خالد بأنهم "محاصرون" حتى يرن جرس الهاتف مبشراً بموعد المغادرة!.

 

*بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR

أضف تعليقك