الأردن: حلم الربيع العربي في ليلة رفع الأسعار
أشعلت قناعة الأردنيين بعجزهم عن مواجهة برد الشتاء حرارة الاحتجاجات. فثاروا إثر قرار الحكومة رفع الدعم عن المشتقات النفطية التي قفزت أسعارها بنسب تتراوح بين 14- 54 في المئة. وهذا قرارٌ عجزت عن اتخاذه أربع حكومات سابقة خلال عامين عينها العاهل الأردني عبد الله الثاني. غير أن الحكومة الخامسة التي اتخذته عللته بإنقاذ الاقتصاد الأردني من انهيار وشيك، وليسهل عليها الحصول على قرض بقيمة ملياري دولار من صندوق النقد الدولي بعد أن غابت المساعدات الخليجية.
وأما الانهيار المشار إليه فيمهد له دين عام قارب الـ 22 مليار دولار (15.5 مليار دينار)، وعجز في موازنة العام 2012 يتوقع ان يبلغ 7 مليارات دولار (5 مليارات دينار).
لم ينتظر الأردنيون أن يكمل رئيس الوزراء الذي طالعهم عبر شاشة التلفزيون الرسمي بحديثه في تلك الليلة من 14 تشرين الثاني/ نوفمبر. حاول عرض مبررات رفع الدعم بعد إعلانه، لم يسمعوا كلامه عن الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة لإنقاذ الاقتصاد، نزلوا إلى الشوارع غاضبين في أوسع موجة احتجاجات تشهدها المملكة التي تجتهد منذ عامين في تحصين أبوابها أمام طرق الانتفاضات العربية. ليلتها، خرج المحتجون في شتى أنحاء المملكة هاتفين بشعار من سبقهم: "الشعب يريد إسقاط النظام". شعار لم تجرؤ الأحزاب والأطر التنظيمية على الاقتراب منه خلال عامين من الاحتجاجات المطالِبة بإصلاحات سياسية، ليأتي بعفوية على لسان المحتجين على القرار الاقتصادي الذي يفاقمُ من بؤس واقعهم المعيشي.
معدلات دخل أنيقة... ومزورة:
يشفع للأردنيين أن أرقاماً غير رسمية تقدر نسبة إنفاق الأردنيين على التدفئة خلال فصل الشتاء بـ 20 في المئة من دخلهم، في وقت تشير تقديرات صندوق النقد الدولي للعام 2012 إلى ان معدل دخل الفرد في الأردن يبلغ 4900 دولار سنوياً (3464 دينار)، في بلد يرزح فيه 80 في المئة تحت خط الفقر المحدد بـ 1124 دولارا (800 دينار)، حسب مسح نفقات دخل الأسرة للعام 2010. وهذه عينة عن المعدلات حين تتخذ "متوسطات" لها هي ببساطة مزورة لأنها تموه الواقع. فهناك من يصل دخله الى ملايين الدولارات "ليعوض" تدني دخول هؤلاء الـ80 في المئة، ويُبقي المعدَّل على ما أُعلن!
وقد يزيد الأردنيين إصرارا إن علموا أن قرار رفع الأسعار سيوفر في حده الأقصى 1,124 مليار دولار تقريباً (800 مليون دينار) سنوياً، في بلد يبلغ فيه التهرب الضريبي 703 مليون دولار (500 مليون دينار) سنوياً ، فيما يُفقِد غياب قانون الضريبة التصاعدية خزينة الدولة 1,265 مليار دولار (900 مليون دينار) سنوياً. وتبلغ فاتورة الفساد المتراكم خلال السنوات العشر الماضية 14 مليار دولار (9,959 مليار دينار) حسب تقديرات غير رسمية.
الفساد والمحاباة الاقتصادية:
لماذا نتحمل ضريبة الفساد وغياب السياسات الاقتصادية الرشيدة، يقول المحتجون، ولا يقنعهم تعهد كرره رئيس الوزراء بان الفقراء لن يتحملوا وزر القرار، وإعلانه أن كل عائلة يقل دخلها الشهري عن 1124 دولارا (800 دينار) ستحصل على دعم نقدي يغطي فرق الأسعار، ليحمل الأغنياء، وغير الأردنيين المقيمين في الأردن، والذين يستفيد مليون ونصف منهم من الدعم الحكومي للمشتقات النفطية، وزر القرار.
ربيعان وشهيد
"هبّة تشرين"، اسمٌ أطلقه الأردنيون على موجة الاحتجاجات الحالية على ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، مستلهمين بذلك "هبّة نيسان" التي شهدها الأردن في العام 1989 نتيجة ظروف اقتصادية سيئة عانتها البلاد آنذاك. وقد تطور البعد الاقتصادي لتلك الهبة الى بعد سياسي، مطالب بالحريات العامة وإسقاط الحكومة وبقانون للأحزاب وعودة الحياة النيابية، وكان لها ما طالبت به.
"هبّة تشرين"، في يومها الأول، لم تُبق مكاناً عصياً أمام حركتها، كسرت في أوجها الحظر الرسمي المفروض على الاحتجاج على دوار الداخلية (ميدان جمال عبد الناصر) الذي يتوسط العاصمة عمّان، فتجمهر عليه المحتجون حتى ساعات الصباح الأولى حاملين شعارات "يسقط النظام"، على مرأى قوات الدرك المدججة بأدوات القمع التي تدخلت اخيراً وفضتهم بالقوة.
خارج العاصمة لم يكن الحال مختلفاً، غاضبون يجوبون الشوارع هاتفين بإسقاط النظام، يطاردهم الخيار الأمني بكل ما أوتى من قوة على القمع الذي راح ضحيته شاب في الثامنة عشرة من عمره، وصفه المحتجون بـ "شهيد الهبّة"، وقالت الرواية الرسمية انه مات في اشتباك مسلح خلال محاولته الاعتداء على مركز للأمن. صاحب كل ذلك حملة اعتقالات شملت من عجزوا عن الهروب قبل أن تطالهم يد رجال الأمن.
ولصوص وبلطجية
وعلى سطح المشهد طفا اللصوص والبلطجية الذين استغلوا حالة الفوضى فنهبوا ودمروا أملاكا خاصة وعامة، وسط تبادل الاتهام حول حقيقة تبعيتهم: الأمن اعتبرهم جزءاً من الحركة الاحتجاجية التي قال انها خرجت عن سلميتها، فيما نسبهم المحتجون للأجهزة الأمنية التي تدير خطة لإرهاب الناس بهدف إخافتهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج أو الالتحاق فيه. وظهر أيضا الموالون الذين طافوا الشوارع بمواكب احتفالية تؤكد على الولاء للنظام، وفي أحيانِ اخرى ظهروا لينوبوا عن قوات الامن في مواجهة المحتجين وتفريقهم، واعتقالهم أحيانا.
على نسق بلدان الثورات العربية، كان مشهداً مكتمل العناصر في حركته الأولى، خلافاً للاحتجاجات السابقة التي كانت بدعوة من أحزاب وحراكات معارضة تلهث قبل أسبوع من الموعد المحدد للاعتصام/ الاحتجاج لحشد الرأي العام، بهدف كسب أكبر قدر من المشاركين، ورغم ذلك فهم لم يتجاوزوا في أفضل الحالات بضعة آلاف. في "هبة تشرين" خرج آلاف المحتجين دون قيادة تنظمهم او تحدد حركتهم وسقف هتافهم.
أحزاب تتبع الناس... بتحفظ
الأحزاب والحراكات المنظمة، لم تجد أمامها خياراً سوى اللحاق بالركب، دون قدرة أو رغبة في الظهور بمظهر القائد للحدث، حتى لا تتحمل وزر شعار "إسقاط النظام" الذي لم تجرؤ سابقاً على رفعه، وهي المتمترسة للآن خلف شعار "إصلاح النظام".
اختفت الأحزاب، وغاب رموزها التقليديون ممن يطيب لهم عادة أن يتصدروا الصف الأول في الاحتجاجات، بحيث تطالهم كاميرات الإعلام، وصمتت إلا عن تحليل يرجع الأحداث إلى تعنت الدولة في السير في طريق الإصلاح الذي تطالب فيه منذ عامين. غياب لم يفهمه المحتجون الذين تساءلوا فيما بينهم: أين ذهب اليمين، اليسار والوسط؟ اين ذهبت الوجوه التي ألفناها في الاعتصامات السابقة؟
خبو، إلى متى؟
ولكن ما بدى بركاناً في لحظته الأولى برد رويداً، ولم يتعد ما أطلقه عليه المحتجون: "الهبّة". ساعد على ذلك اختفاء القيادات التقليدية للاحتجاجات، وعدم القدرة على فرز قيادات جديدة تكون محل إجماع تحمل على عاتقها منح الاحتجاج الزخم والقدرة على الاستمرار والمواصلة.
الجماهير المتحمسة عادت تدريجياً إلى بيوتها، ومن يعتقدون أن لديهم للآن ما يخسرونه لم يخرجوا، ومن ارتسمت في مخيلتهم صورة ما آلت إليه الأحداث في سوريا التي وفد منها إلى الأردن ما يزيد على مائتي ألف لاجئ، شعروا بالخوف من الانزلاق، والأجهزة الأمنية تداركت الوضع بعد الـ 24 ساعة الأولى للقمع، فغاب حضورها المستفز إلا عند مقتضيات الضرورة الملحة، خوفا من تعميد الاحتجاجات بمزيد من الدماء فيصبح لجمها أمرا مستحيلاً.
الأردنيون سيشعرون ببرد مضاعف هذا الشتاء، وسيصطفون طوابير للحصول على الدعم النقدي، إلى أن تتحقق معجزة ما. يا لخيبتهم..!
صحيفة السفير العربي