ابني الذي عاد طفلًا

ابني الذي عاد طفلًا

في تموز 2006، قبل ثلاثة أشهر من عيد ميلاده الخامس والعشرين، تعرض غسان حزيّن لحادث سيارة، دخل إثره فيالحالة التي يسميها الأطباء «الحالة الخضرية» (vegetative state)، وفيها يبدو المريض مستيقظًا، يحرك أعضاءه، ويصدر أصواتًا، ويمارس جسده وظائفه الحيوية، لكنه في الحقيقة مثل نبتة، من دون إدراك لذاته والعالم الخارجي، ولا قدرة على التواصل.  حالة لم يخرج منها قط الشاب الذي يستلقي، منذ 13 سنة، على سريره، في منزله كما لو أنه «بيبي في تخته»، كما تقول أمه هدى حزيّن، التي عادت لتعتني به بالطريقة ذاتها عندما كان رضيعًا، فتطعمه، تحمّمه، تغير له ملابسه، تغسل أسنانه، وتمسّد جسده بالكريمات لتحميه من تقرّحات الفراش.

وقع الحادث في الشونة الشمالية، في الطريق إلى معبر الشيخ حسين، المؤدي إلى فلسطين المحتلة، عندما كان غسان، الذي كان يعمل صحفيًّا، ومقدم برامج في إذاعة عمان نت، يوصل بسيارته المخرج الفلسطيني ميشيل خليفة إلى المعبر، واصطدمت سيارته بشاحنة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس.

عندما وصل الخبر تقول هدى إنها بقيت يومين في المنزل، غير قادرة على الوصول إلى المستشفى، لأنها هي نفسها كانت شبه مغيبة، بفعل كل المهدئات التي اضطروا لإعطائها إياها، كي لا تنسحق تمامًا: «ما كنت بهالعالم، ما كنت بالعالم الطبيعي». وعندما استطاعت أخيرًا الذهاب لرؤيته، كان عليها أن تبدأ التكيف مع ما لم يخطر لها حتى في أسوأ كوابيسها. «في كلمات قبل الحادث ما بخطرلك إنه تصيري تقوليها. مثلًا غيبوبة؛ بتمر عليك وما بتركزي فيها، إلا لما تصير مع الواحد».

في تلك المرحلة من إصابته، كان غسان ما يزال في غيبوبة تامة، من دون أي حركة. وكانت رؤيته ممددًا على السرير ساكنًا يختزل فداحة الواقعة، ذلك أن هذا السكون، تقول هدى، كان النقيض التام لشخصية الشاب الفارع الواعد المنطلق بقوة في حياته الشخصية والمهنية. «كان سابق كل الشباب اللي من سنّه. كان سابق عمره. كان عنده تفكير مختلف عن كل الشباب، حتى بالبرامج اللي كان يقدمها، بنوع الموسيقى اللي كان يحطها بالإذاعة. فلما كانت الضربة، كانت مؤلمة إنها إجت فيه».

واحد من المؤشرات التي تدل على أنه «سابق عمره»، تقول هدى، إنه استطاع في سنه المبكرة تحقيق دخل مكّنه من شراء سيارة، وتأمين دفعة أولى لشقة اشتراها قريبًا من منزل العائلة في الجبيهة، وكان وقت الحادث قد دفع من ثمنها قسطين فقط. والآن فإن كل تكاليفه، تُسدد من إيجار هذه الشقة، ومن راتبه في الضمان الاجتماعي. «حتى وهو مريض بصرف على حاله».

قبل الحادث بأسبوع كانت هدى قد عادت مع زوجها صلاح حزيّن من رحلة إلى بولندا، وهي واحدة من رحلات عديدة اعتاد الاثنان القيام بها من دون الكثير من التخطيط، إلى أصدقاء وأقارب منتشرين في بلاد العالم، بحكم شبكة علاقات واسعة بناها صلاح، خلال حياته المهنية المديدة في الكتابة والترجمة. في تلك المرحلة من زواجهما، كان الاثنان قد تخففا من مسؤولية ابنيهما الوحيدين، قصي وغسان، اللذين كانا قد تخرجا وعملا وبدآ حياة مستقلة. وبذلك، فإن ذلك اليوم، كان بالنسبة لهدى وصلاح (ومن ثم لهدى وحدها، فقد توفي صلاح بعد الحادث بثلاث سنوات) كان حدًّا فاصلا بين حياتين، حياتها عندما كانت خفيفة، وتتخذ قرارات الخروج من المنزل، أو حتى السفر، مع زوجها أو وحدها «بلحظتها، بنطلع وبنشغل السيارة»، وحياتها الأخرى الممتدة إلى الآن، وهي فيها مقيدة، بمحض إرادتها كما تؤكد، إلى سرير غسان، فتبرمج كل مشاويرها، حتى تلك التي لا تبعد أكثر من دقائق بالسيارة لتصبح فقط ضمن ساعات الفراغ التي تتخلل النظام اليومي الصارم الذي تتبعه للعناية به: الساعة التاسعة تطعمه وجبة الإفطار، تغسل أسنانه، وتحلق له ذقنه، وتغير له ملابسه، وملاءات السرير. الساعة الثانية تقدم له وجبة الغداء. الساعة الرابعة الغيار مرة أخرى. والساعة الخامسة قطعة حلوى، والساعة السابعة وجبة عشاء خفيفة.

قضى غسان في المستشفى ثلاثة أشهر، حسم الأطباء خلالها أن الضربة قد أحدثت أضرارًا كبيرة بمنطقة جذر الدماغ لديه، وأن احتمال استيقاظه أو بقائه في غيبوبة متساويان. لكن هدى عندما حملته وصلاح إلى المنزل، ظلت (وما زالت) تنظر فقط إلى الـ50% المتعلقة باحتمال استيقاظه، لا العكس. وهي تعترف أنها ظلت طوال السنوات الماضية تتجنب القراءة بعمق عن حالة ابنها، لأنها خائفة أن تعرف ما يمكن أن يسلبها الأمل في أن يستيقظ. «أنا بخاف أدخل في العمق [فأعرف] إنه حالة ميئوس منها. حتى لو حالة ميئوس منها، أنا بعقلي لأ، مش ميئوس منها».

إنها على النقيض، تركز على استمداد الأمل من أخبار حالات المرضى الذين استيقظوا بعد سنوات غيبوبة طويلة. «طيب الحالات اللي كانت بغيبوبة وصحيت، على أي أساس صحيت؟». وحتى في أسوأ الأحوال، وحتى لو لم يستيقظ، «أنا بقول حتى إذا كانت الحالة سيئة، الاهتمام والنظافة والأكل بساعد إنه برضو يكون بحالة أفضل. هاي الرعاية حتى لو ما ساعدت في صحيانه بتساعد ما تتدهور حالته».

تقديم الرعاية لشاب بحجم غسان، وبالقوة العضلية التي يمتلكها، تقول هدى، ليس مهمة سهلة أبدًا. فبعد أن انتقل من الغيبوبة التامة إلى الحالة الخضرية صارت له دورة نوم واستيقاظ. وهو في ساعات اليقظة يفتح عينيه ويبتسم، ويصرخ أحيانًا. كما أنه يحرك الذراع والساق اللتان لم تتضررا في الحادث، بل بقيتا محتفظتيْن بقوته ذاتها قبل المرض، بحيث أنه، كما تقول هدى، يفاجئها أحيانًا، أثناء العناية به، فيشوطها في وجهها بيده أو قدمه، لدرجة أنه في إحدى المرات أصاب أنفها بضربة قوية من قدمه فأغمي عليها. يُذكر أن هذا النوع من الحركات مألوف في مثل هذه الحالة، وهي حركات لا إرادية.

ومع ذلك هي ترفض تمامًا فكرة الاستعانة بممرض يأتي لينهض بعبء الرعاية عنها، لأنها متأكدة أنه سيقدم الخدمة بآلية، ولن يهتم بالتفاصيل الصغيرة التي تهتم هي بها. ولن يبادر لما يمكن أن يتطلب المزيد من الجهد. الأمر الذي تفعله هي. مثلًا عندما خرج غسان من المستشفى، كان يتلقى تغذيته طعامًا مطحونًا بالخلاط، يوضع له في بربيش موصول بفتحة في المعدة. وبقي كذلك فترة، الأمر الذي كان يؤلمها بشدة. «ما تقبلتها إنه تطحني الأكل [لشاب] كان ياكل الأكل العادي، وفجأة يصير ياكل هذا الأكل اللي لا منظر ولا شكل ولا طعم، حتى لو نفس الطبخة». فجرّبت هدى قطعة صغيرة جدًا من خبز التوست. وعندما بلعها من دون مشاكل، بدأت بالتدريج تقدم له الخضار والرز رخوًا، ومهروسًا بالشوكة. «زي البيبي بترجعي بتعوديه من أول وجديد، لحد ما عادي رجع طبيعي ياكل أكلنا».

خلال السنوات الماضية، تلقت هدى، وما زالت تتلقى المساعدة في رعاية غسان من عائلتها وعائلة صلاح، ومن ابنها الأكبر قصي، الذي يقيم مع زوجته وأطفاله في الطابق الثاني من منزل العائلة، حيث يساعدونها في تحريكه، وإنزاله عن السرير، واستحمامه. ورغم وجود عاملة في المنزل، إلا أنها كانت تحرص دائمًا أن يقدم المساعدة الأقرباء فقط، ومنهم أختها وسلفتها اللتان كانتا تتناوبان على مساعدتها في غياره. لكن قبل أربع سنوات تقريبًا، جاءت ليليان، العاملة الحالية من كينيا، وهي الأولى التي وثقت هدى في أن تعتمد عليها لتمد لها يد المساعدة. «أكثر وحدة ارتحت إلها؛ عندها جسم، بتقدر تحمل وتشيل، وعندها أولاد وحنونة جدًّا (…) مرات لما بعصّب بتقولي خلص ماما روحي إنت. وممكن ما تنام إلا بعد ما أنا أهدأ وهو يهدأ».

«دايمًا بحكي معه كإنه صاحي. يعني لو رحت على مكان، أو على عرس [بحكيله] قوم، هذا اتجوز، وهذا صار عنده ولد، اللي بعمرك. هاي صاحبك إجا، هذا اتصل وسأل عليك. كإنه سامع بس مش قادر يرد عليّ».

 

 

هذا هو الجانب الآخر من عبء العناية به، وهو الاستنزاف الذهني، الناجم عن نوبات صراخ تنتاب غسان في أيام كثيرة، وليس لها سبب واضح ولا نسق، بحيث يمكن تفسيرها أو التنبؤ بها. تستمر هذه النوبات أحيانا اليوم بطوله من لحظة الاستيقاظ إلى النوم. وهذا تقول هدى يفتت لها أعصابها، لأنها لا تعرف ما عليها أن تفعل، فالتواصل معه شبه معدوم.

التواصل شبه معدوم، لكنه ليس معدومًا تمامًا؛ فهناك بعض الأفعال التي تقول هدى إنها تعتقد أنها تنطوي بطريقة ما على تواصل مع العالم الخارجي، وتؤشر بالتالي على بعض الوعي، وهي فكرة تريحها كثيرًا. هناك مثلًا موقفه من الطعام، فهو ما زال يقبل بشهية على أكل الأصناف التي كان يحبها قبل الحادث، ويمتنع عن الأطعمة التي كان يكرهها. وأحيانًا تطلب منه أن ينزل قدمه فينزلها «الدكاترة بقولولك مش وعي. طيب كيف مش وعي؟ هذا أمر إجاه ونفذه. شو بكون هذا؟».

تصر هدى على أن هناك وعي، حتى ولو كان «جزء بسيط مثل الشعرة». وهذا بالنسبة لها كافٍ لأن تتصرف معه كما لو أنه يعي تمامًا، فتفتح له التلفزيون طوال اليوم. وتضع له الموسيقى التي كان يحبها، الموجودة على مجموعته من الأقراص المدمجة، التي ما زالت على رفوف المكتبة في غرفته. وهي أيضًا حريصة على التحدث معه. «دايمًا بحكي معه كإنه صاحي. يعني لو رحت على مكان، أو على عرس [بحكيله] قوم، هذا اتجوز، وهذا صار عنده ولد، اللي بعمرك. هاي صاحبك إجا، هذا اتصل وسأل عليك. كإنه سامع بس مش قادر يرد عليّ».

بعد سنة تقريبًا من الحادث، تلقت العائلة خبرًا فاجعًا آخر، هو تشخيص إصابة صلاح بالسرطان، ووفاته بعدها بسنتين. ترك صلاح فراغًا هائلًا، تقول هدى إنها ما زالت تستشعره حتى اللحظة «لما بقعد بالليل لحالي. هذا أكثر شيء مؤلم ومزعج؛ إحساس إنه أنا والحيطان».

لم يكن صلاح بالنسبة إليها فقط الشخص الذي يساعدها في مهام إطعام غسان والعناية بنظافته واحتياجاته اليومية، والذي عندما كانت تتركه مع غسان وتخرج، تكون مطمئنة كما لو أنها هي الموجودة. فلم يكن الأمر أصلًا متعلقًا بمن يأخذ عنها جزءًا من العبء الجسدي، لأن مساعدة القريبين منها في هذا الجانب لم تنقطع. الخسارة التي استشعرتها بوفاته كانت، في الأساس، خسارة معنوية وعاطفية، لأنه كان الشخص الوحيد الذي كان جرحه مساويًا تماما لجرحها. ففي وقت كان غسان جزءًا من حياة القريبين منه، فإنه بالنسبة لأبيه «روحه كان (…) كان كإنه هو». لهذا كان بإمكانها أن تشكو إليه، وهي متأكدة أنه يفهم ويعي تماما معاناتها. في حين أنها الآن، تجد نفسها تنخرط في البكاء، من دون أن تكون قادرة على التعبير بدقة عما في داخلها. فهي إما تشفق على الآخرين من أن تحمّلهم همًّا فوق همومهم، أو هي تصطدم أحيانًا بأن البعض ليس مستوعبًا لحجم مصابها؟ «يعني اللي بيجي ويقلي اتحملي. طيب ما أنا بتحمّل»، وهو ما يجعلها تشعر أحيانًا أنه «ما بحسّ بوجعك غير إنت».

لقد كان صلاح، من ناحية ثانية، الصخرة التي كانت تستند إليها، وتستمد القوة منها. فقد تعامل مع الحدث منذ اللحظة الأولى بصلابة، وظل ثابتًا، حتى بعد أن شُخّص بالسرطان، فظل يمارس حياته الاجتماعية، ويمارس القراءة والكتابة والترجمة، ويذهب إلى عمله محررًا في جريدة السجل إلى ما قبل أسبوع من وفاته. وكان من بين المشاريع التي ظل يعمل عليها إلى وفاته سيرة ذاتية أسماها «غسان قلبي»، وخصصها لتوثيق قصة غيبوبة ابنه. وتقول هدى إنها حاولت أكثر من مرة قراءة الكتاب الذي نُشر بعد وفاة صلاح بسنة، لكنها لم تستطع قطّ المواصلة، لأن قلبها لم يحتمل. لقد كانت القوة التي حافظ عليها صلاح «ولو بالشكل» تعينها على الاستمرار. والآن باتت تراكمات كل هذه السنوات تجعلها تشعر في أحيان كثيرة أن طاقتها استنفذت، ويزيد من إنهاكها الجسدي «إني ما بنام مزبوط. بخاف يتكشّف، أو مش مرتاح. يعني حتى لو نام بظلني قلقة».

تقول هدى إنها مع كل ذلك تركز على أمر واحد، هو أن تظل قادرة على أن تستمر «أخدمه مش بعيوني، أكثر من عيوني». وهي واعية لحقيقة أنها كي تفعل ذلك يجب ألا تسمح لنفسها أن تسقط في الكآبة بحيث «ما أوصل لدرجة الاستسلام، ولا أروح لناحية توديني لمناطق معتمة». لهذا هي تحرص، على مواصلة الانخراط في الحياة الاجتماعية، والمشاركة في المناسبات المختلفة. وقد تعلمت أن تعذر نفسها عندما يغلبها الألم وهي بين الناس «حتى لو كنت بفرح وعيّطت عادي». وقبل ستة أشهر، سمحت لنفسها، ولأول مرة من 13 سنة أن تسافر، عندما ذهبت أسبوعًا إلى تركيا.

لكن حالتها النفسية ساءت كثيرًا قبل قرابة ثلاثة أشهر، عندما توفي قريب للعائلة، كانت حالته مطابقة لحالة غسان، فقد تعرض هو أيضًا لحادث سيارة، دخل بعده في غيبوبة استمرت سنة ونصف، توفي بعدها. وهي الآن مرعوبة من أن تشابه الحالتين يعني أن هذا يمكن أن يحدث مع غسان أيضًا. تقول هدى إن هذه الحادثة زلزلتها، لأنها وضعتها في مواجهة الفكرة التي ظلت طوال هذه السنين تهرب من مجرد التفكير بينها ونفسها؛ فكرة الموت كاحتمال. ففي وقت قد يعتقد البعض، كما تقول أن موت من هم في مثل هذه الحالة راحة، للطرفين: المريض وأهله، فإن هذه ليست الحال بالنسبة لها. تقول إنها لا تستطيع الجزم بأن هذا سيكون راحة لغسان لأنها لا تعرف أصلًا إلى أي مدى هو واعٍ، وإن كان يتألم أم لا. هي فقط تعرف أنه «رغم إنه صارله سنين، بس بالنسبة إلي هو موجود، حتى لو مش حاسس فيّ، وجوده بكفّي».

أضف تعليقك