وثائقيات حقوق الانسان- اسماء رجا حمدي غندور، مرشح شاب لم تسعفه ظروفه المالية حتى في طباعة ملصق يتيم يعلقه على احد اعمدة شوارع الدائرة الانتخابية الثالثة في العاصمة عمان، وفي المحصلة لم يجن سوى على 41 صوتا. وفي المقابل، تمكن مليونير منافس له في ذات الدائرة، وهو امجد المسلماني، من حصد اكثر من اربعة الاف صوت ضمنت له مقعدا في مجلس النواب، وذلك بفضل حملة انتخابية باذخة انفق فيها نحو 200 الف دينار. وتمثل قصة غندور والمسلماني تجسيدا واقعيا لملحمة "من يملك ومن لا يملك"، التي طبعت الانتخابات النيابية الاردنية على امتداد تاريخها، والتي لا يتساوى المتنافسون فيها ماليا الا في حيثية واحدة وهي رسوم الترشح البالغة 500 دينار. وقد جعلت هذه الملحمة الكفة مرجحة دوما لصالح الاثرياء الذين اطلق القانون يدهم في خوض منافسة انتخابية ساحقة ماليا، ودون اية ضوابط تراعي ولو حدا ادنى من العدالة وتكافؤ الفرص بينهم ومنافسيهم ممن لا يملكون الثروات. غندور، وكما يخبر "وثائقيات حقوق الانسان"، لم تمكنه احواله المالية المتواضعة من اقامة مقر انتخابي او طباعة صور ويافطات، واكتفى بالترويج لحملته اعبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت. وعلى الاقل، كان هناك جانب ايجابي لهذه المعاناة في التواصل مع الناخبين، وهو انه لم يكن مضطرا الى استدانة قيمة رسوم التامين الدعاية الانتخابية التي تفرضها امانة عمان على المرشحين، والبالغة اربعة الاف دينار. وتجبي الامانة هذا المبلغ المسترد من المرشحين لضمان ازالتهم يافطاتهم وصورهم من الشوارع خلال الايام الثلاثة التي تلي انتهاء عملية الاقتراع، وتحت طائل مصادرته في حال لم يلتزموا بذلك. وفي الجانب الاخر للقصة، فقد انفق المسلماني بسخاء على حملته، فامتلأت الشوارع بيافطاته وصوره الضخمة وحفلت الصحف والاذاعات والتلفزيونات والمواقع الالكترونية باعلاناته الانتخابية. ويبرر المسلماني هذه الدعاية الكثيفة والمكلفة بما يقول انها قاعدة يتبناها في حياته وتنص على انه "بقدر ما تنفق على الدعاية ياتيك المردود". وهو على ما يبدو يستنسخ تجربته في مجال السياحة والسفر عبر شركته التي حققت نجاحات واضحة بفضل دعاياتها التي تحتل حيزا كبيرا من البث اليومي في العديد من الاذاعات ومحطات التلفزة، فضلا عن الاعلانات في الصحف. ويقول المسلماني الذي تصدر الدائرة الانتخابية الثالثة في عمان بعدما حصد اكثر من اربعة الاف صوت "كيف لي المنافسة في دائرة الحيتان والحصول على هذا المركز ان لم يكن هناك دعاية انتخابية قوية". انفاق باذخ وقد سجل الانفاق الإعلاني لمرشحي انتخابات المجلس النيابي السابع عشر على ثلاث وسائل إعلانية (تلفزيون، راديو، صحف ورقية) نحو 1.84 مليون دينار بحسب ارقام صادرة عن شركة "ابسوس الأردن" للبحوث. وبحسب بيانات الدراسة؛ فقد تراجع حجم هذا الانفاق بنسبة 40 %، مقارنة بالانتخابات السابقة التي جرت في العام 2010، والذي بلغ وقتذاك 2.57 مليون دينار. ولا تعبر ارقام الدراسة عن الحجم الحقيقي لهذا الانفاق في ظل عدم شمولها للمواقع الالكترونية التي نالت حصة كبيرة من اعلانات المرشحين، لكن يحول عدم وجود سجلات لغالبيتها دون معرفة ما حصلت عليه بسبب عدم تسجيلها رسميا كشركات. والتباين في الامكانات والفرص، وبالتالي النتائج بالنسبة لغندور ومسلماني، لا يقتصر على دوائر عمان ومنها الدائرة الثالثة التي يطلق عليها "دائرة الحيتان" كناية عن ثراء المتنافسين الرئيسيين فيها، بل هو قصة تتكرر في انحاء البلاد. ففي الزرقاء مثلا، قرر يعقوب المهداوي خوض المنافسة في الدائرة الرابعة، فحول بقالته الصغيرة الى مقر راح يوزع منها كروتا انتخابية كلفته طباعتها عشرة دنانير، وكانت هي كل دعايته الانتخابية. وقد خرج المهداوي بحصيلة 61 فقط من اصوات الناخبين في الدائرة التي حصل الفائز الاول فيها على اكثر من ستة الاف صوت. وكما غندور، فقد عزا المهداوي قلة الاصوات التي حصل عليها الى ضعف قدرته المالية التي حالت دون وصوله الى جمهور الناخبيين. ولم يقتصر تأثير الفوارق المالية على مرشحي الدوائر المحلية بل امتد ليشمل 61 كتلة انتخابية تنافست على 27 مقعدا خصصت للقائمة الوطنية، وذلك من اصل عدد مقاعد مجلس النواب ال 150. وباستثناء كتلتين حصلت احداهما على ثلاث مقاعد والاخرى على مقعدين، فان كافة الكتل الفائزة لم تحصل سوى على مقعد واحد لكل منها. ويرجع اشرف ماجد، وهو احد اعضاء كتلة "شباب الوفاق الوطني" سبب عدم حصولها سوى على مقعد واحد الى ضعف امكاناتها المالية. ويقول ماجد ان ما انفق على الحملة الانتخابية للقائمة لم يتجاوز 50 الف دينار "جلها من رئيس القائمة معتز ابو رمان اضافة لبعض المرشحين ضمنها". ارادة الناخب وكما يؤكد مراقبون، فقد انعكست الفوارق المالية على فرص الناخبين في الوصول الى ناخبيهم، وكذلك على ارادة الناخبين انفسهم. ويقول الكاتب والمختص في الشأن البرلماني وليد حسني في هذا الصدد، ان الفروقات المالية في الانفاق على الدعاية الانتخابية تلغي المساواة في الوصول الى الناخبيين، التي عدها احد اركان العملية الانتخابية حسب المعايير الدولية. وكحل يضمن تكافؤ الفرص والمساواة بين المرشحين، فان حسني يرى انه "يجب تحديد سقف مالي لكل مرشح اضافة الى الزام قانوني لكل مرشح بالافصاح عن مصادره المالية ووجوه صرفها". وكانت العديد من المنظمات والهيئات الحقوقية ومن بينها المركز الوطني لحقوق الانسان شبه الرسمي، قد طالبت بتحديد سقف اعلى لحجم الانفاق على الحملات الانتخابية. وقد اعتبر المركز في ملاحظات أصدرها حول مراقبة الانتخابات، ان من شأن تحديد هذا السقف التقليل من اثر المال على العملية الانتخابية وتقليص الفوارق المالية التي تنفق على الدعاية الانتخابية. واقترح المركز في هذا السياق، إضافة بند يلزم المرشحين سواء على مستوى الدوائر الفردية أو القوائم العامة، بفتح حساب خاص للمرشح أو القائمة، وأن يتم الإنفاق على الحملات الانتخابية من خلاله. وتنص التعليمات التنفيذية الخاصة بقواعد الدعاية الانتخابية على الزام مرشح الدائرة المحلية او مفوض القائمة الوطنية بالافصاح عن موارد تمويل الحملة الانتخابية واوجه انفاقها. وتحظر التعليمات التي تخلو من اية قيود على حجم هذا الانفاق، قبول المرشحين أي تبرعات ومساهمات مادية او مالية من الدول والحكومات الاجنبية والمنظمات الدولية الرسمية والاهلية والشركات الاجنبية او الرعايا الاجانب. وحظرت التعليمات تقديم أي تبرعات او هدايا او مساعدات نقدية او عينية او غير ذلك من المنافع او الوعد بتقديمها لشخص طبيعي او اعتباري سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة مقابل الحصول على البطاقات الانتخابية او مقابل الحصول على اصواتهم او منعهم من التصويت لمرشح معين او قائمة معينة. مال سياسي وكما هو واضح فان الهدف من هذه التعليمات هو منع التدخل الاجنبي والحد من تاثير المال السياسي في العملية الانتخابية. لكن أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية ليث نصراوين يعتبر المبالغة والبذخ في الدعاية الانتخابية من اهم عوامل المال السياسي الذي يؤثر على ارادة الناخبين وتوجهاتهم. ويرى نصراوين ان هناك قصورا في قانون الانتخاب يتمثل في غياب اليات وقائية تمنع المال السياسي، مثل تحديد سقف اعلى للدعاية، مع الاخذ في الاعتبار الخصوصيات المتعلقة للمرشحين وفقا للمنطقة الجغرافية. ولا يوجد في القانون ما يمنع تحديد سقف اعلى للدعاية، بحسب نصراوين، الذي يلفت الى ان المادة 67 من الدستور تؤكد على اجراء انتخابات تضمن عدم التاثير على ارادة الناخبيين. وفي مقابل الدعوات الى تحديد سقف اعلى للانفاق الانتخابي، الا ان بعض الخبراء يرون ان مثل هذه القيود لها عواقب سياسية وانتخابية، وقد تعطي ميزات تفضيلية لبعض المشاركين في الإنتخابات. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن فرض حدود انفاق منخفضة جدا تجعل من الصعب مساعدة المرشحين الجدد على منافسة مرشح مخضرم يتمتع بشهرة الإسم بحكم شغله منصب النيابة، ويمكنه الاستفادة من الميزات الاستثنائية لهذا المنصب. والى حين الوصول الى صيغة او سقف انفاق معين يكفل ولو حدا معقولا من المنافسة المتكافئة والعادلة بين المرشحين، فان معظم مقاعد مجلس النواب ستظل حكرا على الاثرياء، وبخاصة المليونيرات الذين تقول بعض التقارير ان عددهم في المجلس الوليد يتجاوز الثلاثين. شاهد الفيلم الذي اخرجه غسان فرج واعدته اسماء رجا