شهدنا في العقدين الأخرين حديثاً كبيراً وعريضاً عن تطوير التعليم ومشاكله ومعاناته، وعُقدت الندوات والمحاضرات للحديث عن طرق التطوير وأسباب المشكلة وحلولها، وكان من أهم الأعمال التي ظهرت ولقيت رواجاً كبيراً هي ما يُسمى المبادرات، ويبدو أن موضة هذا العمل قد شكلت مختلف مناحي الحياة، فصرنا كل يوم نسمع عن مبادرة جديدة، وفي العادة فإن المبادرة تخرج فقاعة وتختفي كموجة الماء وسط بحر متلاطم.
وليس من باب السخرية أن هناك مبادرة كنت شاهداً عليها، وهي تنظيف شوارع في إحدى القرى، فتم الإعلان على مواقع التواصل الاجتماعي، وتداعى الشباب من كل حدب وصوب، وجمعوا أكياسا من القمامة عن أطراف الشارع، وأخذوا صوراً؛ مفردة وجماعية، وسلفي وعادي، وبعد ذلك انفض الجميع وبقيت أكياس القمامة على أطراف الشارع، وبعد أسبوع أو أقل تطايرت القمامة من هذه الأكياس وعادت كما كانت، لكن الشباب اعتقدوا أنهم قدموا عملا مهما وبخاصة حين كانت صورهم تملأ صفحات (الفيس بوك).
المشكلة أن هذه الآفة دخلت إلى حقل التعليم، وصرنا نسمع كل يوم عن مبادرة جديدة، ولم نعد قادرين على إحصاء عددها، ولا نعرف أهدافها التربوية بشكل علمي.
قد تحمل هذه المبادرات نوايا سليمة، لكن التعليم بالذات لا يخضع لمثل هذه الأعمال، ومن المفترض أن لا يكون رهنًا لاجتهادات شخصية، أو أحلام وردية، أو طموحات خاصة، تبدو من الخارج جميلة لكن نتائجها ربما تكون ضارة في المستقبل، فالتعليم عملية نوعية تخضع لشروط تربوية وتعليمية واستراتيجيات مدروسة، ونتائج لأبحاث علمية رصينة تعطي المشكلة والحل.
كما أن التعليم لا يخضع للتجريب وإن كان من أهدافه تعليم الطلاب منهج التجريب، فالطلاب ليسوا حقلا للتجريب، ولا هم سوق يتنافس عليه الحالمون ليحققوا من خلاله راحة الضمير، وهم يعيشون في ترف شكلي.
المبادرات كثيرة، وهي تحتاج إلى مراجعة وتقييم ونقد، لكني أتحدث هنا عن جانبين فيهما، الأول يتعلق بالفلسفة التي تقوم عليها المبادرة في المجال التعليمي، والثاني يتعلق بالنتائج التي تتحقق من ورائها.
فلسفة المبادرة - كما يروج لها دُعاتها - تقوم محاولة لإيجاد حلول للمشكلة من وجهة نظر صاحب المبادرة، أو من يزينون له القيام بمثل هذه المبادرات، وليس شرطاً أن يكون بالفعل هناك مشكلة في الجانب الذي يتحدثون عنه، أو الذي يعتقدون أن تطويره مهم، وذلك لأن ذلك غير مبني على بحث في الواقع، ولم يشارك فيه الأطراف الحقيقيون للعملية التعليمية، وأقصد المعلم والطالب وولي الأمر والممشرفين التربويين والكادر التعليمي بشكل عام، بل تأتي القرارت من سلطات عليا، ويُطلب من الجميع تطبيقها أو العمل بها دون قناعات راسخة، فتكون النتيجة عكسية تماماً، ويتم تشويهها بشكل متعمد أو غير متعمد، لأنها قد تكون أحياناً بعيد كل البعد عن الواقع التعليمي.
يبدو أن الحالمين في القصور لا يعرفون تماماً الواقع الذي تعيشه المدارس في الأردن، ومدى معاناتها من نواقص كثيرة، وكذلك لا يعي أصحاب المبادرات أن أساسيات المدارس غير متوفرة، وهم يطلبون منهم أن يحققوا شروط مدارس يزورونها في جولاتهم ورحلاتهم خلال العالم، ويعتقدون أن ما شاهدوه قد يكون مناسباً لنا، فكيف نطلب من تلميذ أن يفكر في تطوير برمجيات الحاسوب وهو لا يملك ثمن رغيف الخبز، وليس لديه في المدرسة غرفة صفية تحميه حر الصيف وبرد الشتاء؟
لو عدنا إلى أغلب هذه المبادرات لوجدناها تقفز عن الأوليات وتزين الواقع بما ليس فيه، وتعلم كوادر التربية والتعليم الاهتمام بالشكليات على حساب المضمون، وتجعلهم غير قادرين على تحديد أولوياتهم وفق المكان والزمان الذي يعيشون فيه، فالعملية التعليمية هي محاولة استغلال الواقع بما يعانيه من مشاكل، والحديث عنها بوضوح من أجل العمل على إيجاد حلول مناسبة لها، وليس القفز عن المشاكل الأساسية لمجاراة الحلم الذي تقدمه المبادرة، فهناك فرق شاسع بين الأحلام والواقع، ولذا فإن الأهم من كل هذه المبادرات هو تأهيل المعلم ليكون قادرا على استغلال البيئة المحيطة به والعمل على تحسينها من داخلها وليس بتزيينها أمام المسؤول عند الحاجة، وأمام الكاميرات فقط.
العملية التعليمية كما يراها منظرو التربية هي عملية متكاملة ومستمرة، وليست لحظية آنية، وهي عملية تقوم على جهود العاملين فيها من خلال نظرية مدروسة بشكل دقيق، لا تخضع لنسبة عالية من الصح والخطأ، ولذا فعلى أصحاب المبادرات أن يأخذوا صوراً لمبادراتهم بعيدا عن حقل التربية والتعليم، فهناك عشرات المجالات التي يمكن أن تحقق لهم أحلامهم بالتكفير عن عيشهم المترف في مجتمع يعاني من الفقر والجوع.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.