ما هو الأردن ومن هو الأردني؟
من الذي يحدد من هو الأردني ومن هو غير الأردني من بين المواطنين الأردنيين؟ من الذي يملك صلاحية تحديد من هو الأردني الكامل في أردنيته ومن هو الأردني الناقص في أردنيته؟ أسئلة سخيفة وغريبة لوضع أسخف وأغرب. أين هو النص في الدستور الأردني الذي يعترف بوجود درجات من المواطنة الأردنية؟ إذا كان هنالك نص دعونا نحتكم إليه. واذا لم يكن هنالك نص دعونا نُحاكِمْ من يتشدق بهذه المقولات التي تهدد مستقبل البلد والسلم الاجتماعي.
تصنيف المواطنين طبقاً لأصولهم هي هواية يمارسها بعض الأردنيين وبدعم من أناس شغلوا مناصب عالية لا يستحقونها، أو استفادوا دون وجه حق، أو عاشوا في كَنَف الدولة الأمنية وواجبهم يتطلب اجترار ما يردهم من تعليمات.
نحن لا نتكلم فقط عن أقوال يتشدق بها البعض أو عن ممارسات لا تخلو من شذوذ سياسي واجتماعي، وإنما أيضاً عن الأساس الأخلاقي الذي يسمح لمواطن أن يتعامل مع المواطن الآخر بنظرة مبنية على تصنيفات عجيبة مثل الأصول والمنابت وغير ذلك من الإصطلاحات التي لا تسمعها إلا في الأردن. الأساس هو المواطنة الناجزة والمواطنة المتساوية ومن لا يعجبه ذلك فليترك هو هذا البلد لأنه لا يستحقه. الوطن لمواطنيه كافة دون تمييز، وعلى الحُكْم أن يقف على مسافة متساوية من الجميع عملاً بالمبدأ الدستوري دون أي محاباة أو مؤامرات أو تهديد أو ابتزاز. فحياة البشر ومستقبل أبنائهم ليسا لعبة في يد مجموعة من المتنفذين. وتولي البعض مواقع المسؤولية لا يعطيهم أي حق دستوري أو أخلاقي لتصنيف المواطنين والتمييز بينهم مستندين إلى قوة المنصب ولا شئ آخر.
وحتى نضع النقاط على الحروف دعونا نستعرض الأوضاع السائدة عشية وحدة الضفتين في إطار المملكة الأردنية الهاشمية حتى نضع حداً لمقولة بعض الموتورين بأن المواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني جاؤوا خاليي الوفاض إلى شرق الأردن وعاشوا عالة عليه. نفتح هذا الملف التعيس الذي لا يستفيد منه أحد سوى أعداء الأردن ولمرة واحدة فقط وذلك بهدف استخلاص العبر وحتى نقوم بعد ذلك بإغلاقه إلى الأبد وتكميم أفواه أولئك الموتورين ووضع حد لسُعَارِهم الذي لن يؤدي في النهاية إلا إلى الخراب والدمار.
أصبح للسكان القاطنين على الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن دولة، لأول مرة في التاريخ، في عام 1923 على يد الانجليز وبقيادة الهاشميين. فالأراضي الواقعة شرق نهر الأردن،وطبقاً للمراجع التاريخية ،كانت حتى عام 1923 عبارة عن أجزاء من اقطاعيات أو واجهات عشائرية أو أطراف جغرافية تابعة لسوريا أو مصر أو الجزيرة العربية أو الدولة العثمانية ،ولم تتحول إلى كيان سياسي مكون من مجموع تلك الاقطاعيات والواجهات العشائرية والأطراف الجغرافية إلا على طاولة الرسم في وزارة المستعمرات البريطانية، وتم رسمها كإمارة شرق الأردن وإقطاعها من قبل وزير المستعمرات البريطاني (ونستون تشيرشل) للأمير الهاشمي عبدالله بن الحسين. هذا ليس رأياً سياسياً أو تحليلياً بل هي حقائق تاريخية لا يمكن إغفالها أو القفز عليها واعتبارها لم تكن. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه المجموعات السكانية أكثر تجانساً وشكلت بالتالي نواة طبيعية لما أصبح فيما بعد الشعب الأردني، وهو في أصوله انعكاس حقيقي لتعددية كانت قائمة دون هوية وطنية محددة حتى عام 1923. وهكذا فإن من يحلو له الإدعاء بأنه أردني من مئات السنين، أو أنه أردني كامل وغيره أردني ناقص، لا يفقه شيئاً من تاريخ هذه الدولة.
وبعد الهزيمة العربية في فلسطين عام 1948، صدر عن الحكومة الأردنية القانون رقم (56) لعام 1949 والذي ينص في مادته الثانية على ما يلي:-
( جميع المقيمين عادة عند نفاذ هذا القانون في شرق الأردن أو في المنطقة الغربية التي تدار من قبل المملكة الأردنية الهاشمية ممن يحملون الجنسية الفلسطينية يعتبرون أنهم حازوا الجنسية الأردنية ويتمتعون بجميع ما للأردنيين من حقوق ويتحملون ما عليهم من واجبات).
إذاً تم إعطاء الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية الجنسية الأردنية قبل قيام الوحدة عام 1950 ،وأصبحت جنسيتهم الأردنية بذلك غير مرتبطة بالوحدة بين الضفتين ونتائج تلك الوحدة .
في 24 نيسان 1950 تم الإعلان رسمياً عن وحدة الضفة الغربية مع شرقي الأردن (الضفة الشرقية لاحقاً) تحت إسم المملكة الأردنية الهاشمية المعمول به منذ عام 1946 . وكان الخطأ الكبير في حينه عدم إعطاء الدولة إسماً جديداً محايداً مثل الذي اقترحه الملك حسين لاحقاً وهو “المملكة العربية المتحدة”،وذلك حتى لا يتم إعطاء البعض صفة تفضيلية وهمية توحي إليهم خطأً وكأن الدولة هي لهم وحدهم وليس لمجموع الشعب القاطن فيها . وعلى أي حال فإن الحديث عن ملابسات تلك الوحده لا يعنينا في هذا المقال بقدر ما يهمنا تحليل الممارسات الرسمية لهذه الوحدة والتي خلقت عند البعض انطباعات ومواقف خاطئة أدت إلى ما نحن فيه الآن .
لقد أدت الممارسات الرسمية للحكم الأردني في الحقبة الممتدة من 1950- 1967 إلى تولد شعور قوي بين أوساط معظم الأردنيين من أصل فلسطيني بأن السياسة الرسمية للحكم لا تسير في صالح الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) وأن هنالك تمييزاً مقصوداً ضد الأرض الفلسطينية وليس ضد المواطنين من أصل فلسطيني . والتمييز ضد الأرض الفلسطينية أصاب بالضرورة جميع الأردنيين بغض النظر عن أصولهم . فأي مواطن أردني يريد مثلاً انشاء مصنع أو جامعة في الضفة الغربية كان يلقى معارضة وعقبات رسمية غير معلنة حتى يقوم بانشاء ذلك المشروع في الضفة الشرقية . والسياسات لم تقف عند ذلك بل امتدت لتشمل ما هو قائم وموجود من الكنوز الوطنية الفلسطينية .
فمثلاً عشية قيام الوحدة عام 1950 أصبحت إذاعة القدس هي الإذاعة الرسمية للمملكة الأردنية الهاشمية . وفي 1/7/1956 تم افتتاح خدمة الإذاعة من عمان بواقع ساعة واحدة بث في الصباح وساعتين في المساء . وفي عام 1959 تم تطوير اذاعة عمان لتصبح هي محطة الإذاعة الرئيسية بواقع عشرين ساعة بث في النهار وبقوة مائة كيلو واط ،في حين تم انقاص ساعات بث إذاعة القدس الى ست ساعات يومياً ،وبنفس قوتها التي انشأت بها قبل عام 1950 (أي قبل الوحدة) وهي عشرين كيلو واط . إذاً تم انشاء اذاعة عمان على أشلاء اذاعة القدس عوضاً عن المحافظة على كلا الإذاعتين.
مطار القدس شاهد نفس مصير اذاعة القدس . فحتى عام 1962 كان مطار القدس يستقبل مائة وعشرين ألف مسافر وخمسة آلاف رحلة جوية في العام مقارنة بمطار عمان الذي كان يستقبل واحداً وأربعين ألف مسافر والفين وثمانمائة رحلة جوية في العام . وفي عام 1964 ،كان مطار القدس يستقبل ثلاثين رحلة جوية لطائرات أجنبية في الأسبوع في حين كان مطار عمان يستقبل إحدى عشرة رحلة لطائرات أجنبية . وبالرغم من ذلك ،فإن كافة جهود الحكم الأردني كانت منصبة على تطوير وتوسعة مطار عمان بدون وجود خطط مماثلة لمطار القدس. وقد وصلت هذه السياسة مداها خلال الفترة 1965-1967 حين كان مطار القدس شبه مغلق تحت حجة عدم قدرتة على استقبال الطائرات الكبيره .
وخلال الفترة 1951-1967 قامت الحكومة الأردنية بشق ما مجموعه 789 كيلو متراً من الطرق الإسفلتية الجديدة في الضفة الشرقية مقابل 92 كيلو متراً من الطرق الإسفلتية الجديدة في الضفة الغربية .
وخلال الفترة 1951-1967 ،تم بناء 18 مستشفى حكومي في الضفة الشرقية معظمها تم بناؤه بعد عام 1950 ،في حين كان في الضفة الغربية عشرة مستشفيات حكومية تم بناء معظمها قبل عام 1950 خلال الحكم العثماني والانتداب البريطاني .
ونفس الشئ ينطبق على الصحافة الفلسطينية بجذورها التاريخية والتي تم تقليصها وتقزيمها ومن ثم صدرت قرارات حكومية بإلغاء جريدتي فلسطين والدفاع وهما صحيفتين تاريخيتين وانشاء صحف حكومية مثل صحيفتي الرأي والدستور. اذاً الحقيقة هي أن الفلسطينيين دخلوا دولة الوحدة بكنوز وطنية هامة ودرجة عالية من التقدم بالرغم من المآسي التي لحقت بهم جراء انشاء الكيان الصهيوني على جزء كبير من أراضي فلسطين ،والحقيقة الأخرى هي أن الدولة الأردنية بنيت على أشلاء المؤسسات الفلسطينيه القائمة في الضفة الغربية منذ ما قبل وحدة الضفتين ،وبأموال دولة الوحدة وبسواعد أبناء الأردن جميعاً .
وبالرغم من التوتر السياسي والمصاعب التي سادت في العلاقة بين الحكم الأردني والمواطنين، فإن عملية الانصهار والدمج الاجتماعي بين الناس كانت تسير بنعومة وهدوء ولم يُنَغص الحياة العامة الا الشعور العام لدى معظم المواطنين بوجود نوايا سيئة خفية وغير معلنة من قبل الحكم الأردني تجاه القضية الفلسطينية مما خلق جواً عاماً من الشك والتوتر لدى معظم المواطنين من تبعات تلك النوايا، وجعلت الحكم الأردني في مزاج حاد تجاه التحركات الجماهيرية في الضفة الغربية خصوصاً وفي الأردن عموماً والتي عكست نفسها في سياسة القبضة الحديدية الأمنية للسلطة الأردنية على الضفة الغربية وعلى أي تحرك سياسي جماهيري في الضفة الشرقية .
وفي 5 حزيران 1967 ،خسر الحكم الأردني الحرب مع اسرائيل وتم احتلال كامل أراضي الضفة الغربية . وبغض النظر عما جرى قبل ذلك وبعد ذلك ،فإن مسوؤلية الهزيمة وتبعات تلك الهزيمة تعود على القيادة التي خسرت الحرب. ولا يجوز ولا يحق لأحد أن يَدّعي بأن ما جرى لم يكن، وأن الأردنيين من أصل فلسطيني قد خسروا حقوقهم وما لهم بخسارة الضفة الغربية مع أن الإدارة التي خسرت الحرب هي الإدارة الأردنية ،والإدارة التي فكت الارتباط فيما بعد هي الإدارة الأردنية وهي تتحمل بالتالي مسؤوليات وتبعات قراراتها وليس المواطنين. وإذا ادعى الحكم الأردني أن فك الارتباط قد جاء بناءً على طلب منظمة التحريرالفلسطينية ،فما علاقة الأردنيين من أصل فلسطيني بذلك؟
يهدف هذا الاستعراض التاريخي الموجز جداً الى وضع حد للمقولات المريضة التي تحاول تزوير التاريخ والعبث في الواقع وتهدد المستقبل. كما يهدف للوصول الى نقطة الحسم في هذا الموضوع وهي المواطنة.
فالمواطنة هي حق كما هي واجب. ولا يجوز أن يكون المواطن مواطناً فقط عندما يتعلق الأمر بواجبات المواطنة مثل دفع الضرائب والإستهلاكات ورسوم الجمارك والمياه والكهرباء وأقساط التعليم، ويكون غريباً ودخيلاً عندما يتعلق الأمر بحقوق المواطنة! والغريب أن بعض الموتورين يتهمون من يطالب بحقوق المواطنة بأنهم من المنادين بالتوطين والوطن البديل إلى غير ذلك من تعبيرات استفزازية فارغة لا معنى لها سوى الابتزاز والتخوين والتخويف ومحاولة ارغام المواطنين على الصمت. إن من حق أي مواطن أن يطالب بحقوقه. فالمواطنة هي حق وواجب ومسؤولية أساسها المساواة بين جميع المواطنين. وحتى نضع النقاط على الحروف نسأل أولئك الموتورين لماذا يطالب المواطن بالتوطين إذا كان هو في الأصل مواطناً؟ أما إذا كان المقصود المقيمين في الأردن من غير الأردنيين، فما علاقة المواطنين الأردنيين بهم، ولماذا يتم ابتزازهم في مواطنتهم والتعدي على حقوقهم ظلماً وبهتانا؟ إنها نفس المعادلة العجيبة واللادستورية التي تدعو الى تخصيص مغانم الدولة الأردنية للجزء المتنفذ من الشعب، ومغارمها للجزء الآخر.
حديثنا هذا ليس عن “الحقوق المنقوصة” ولا يتعلق بها كما يحلو لبعض الموتورين أن يَدﱠعوا. فالموضوع ليس اقليمياً ضيقاً محصوراً بالأردنيين من أصل فلسطيني، ولكنه موضوع يصيب المواطنين الأردنيين بشكل عام. وإذا أردنا أن نتحدث عن “الحقوق المنقوصة” وأن نضع النقاط على الحروف ،فإن مواطني معان والطفيلة هم أكثر ابناء الشعب الأردني معاناة من “الحقوق المنقوصة”. “فالحقوق المنقوصة” هي أحد الآثار الجانبية للفساد السياسي والمالي والتطورات السلبية التي لحقت بالنظام السياسي الأردني نتيجة استفحال دور وسلطة الأجهزه الأمنية . فالتمتع بالحقوق السياسية بدون الحقوق الإقتصادية والتنموية كما هو الحال في محافظات الجنوب هي “حقوق منقوصة”. والتمتع بالحقوق الاقتصادية والاستثمارية دون الحقوق السياسية هي أيضاً “حقوق منقوصة”.
الأصل في الحقوق هو المساواة في تطبيقها بين المواطنين وكذلك بين المحافظات سواء أكانت تلك الحقوق سياسية أو اقتصادية أو تنموية أو استثمارية أو ثقافية دون أي تحديد أو محددات. وأي خلل في تطبيقها هو بمثابة إخلال في تطبيق المبدأ الدستوري الذي ينص على تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات.
نحن لا نتكلم هنا عن خلل في الدستور أو في القوانين بقدر ما نتكلم عن خلل في تطبيق المبادئ الدستورية التي تحكم التشريعات والقوانين الناظمة للحياة في أوجهها المختلفة. نحن نتكلم عن نوايا سيئة أساسها الحفاظ على المكاسب السياسية والمنصبية والوظيفية والفساد المستند الى غياب الشفافية والمساءلة نتيجة لغياب دولة القانون والتعددية السياسية والاجتماعية لصالح الدولة الأمنية.
إن أي مسوؤل أردني يخالف مبادئ الدستور الأردني يجب أن يُعزل من منصبه وأن يُحاكم وأن يُمنع من تولي أي منصب عام في المستقبل. وإذا كان الحكم الهاشمي قد نجح في تحويل مجموعات سكانية إلى شعب، فإننا يجب أن لا نسمح لأي مجموعة من المتنفذين أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء ويحولوا الشعب الأردني إلى مجموعات سكانية متناحرة. إن هذا هو الخطر الحقيقي على مستقبل الأردن. وإذا كان هناك من يدافع عن أمن الأردن واستقراره فعليه أن يبدأ من هذه النقطة وأن يضع حداً لتلك الفئة من الموتورين التي تسعى إلى الحفاظ على مكاسبها بأي ثمن حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير الأردن.
كاتب ومحلل سياسي اردني
الرأي اليوم