كيف غيرتنا الكمبيوترات والموبايلات
مازالت المرحلة الاقتصادية الاجتماعية المصاحبة لتكنولوجيا الحوسبة وما بعدها تتعدد تسمياتها ومفاهيمها، المعلوماتية، المعرفة، الشبكية، الرقمنة والديجيتال، الثورة الصناعية الرابعة، ما بعد الصناعة، وكلها بالطبع مستمدة من الرقمنة التي بدأت منذ منتصف القرن العشرين، وصارت تحول في الموارد والأعمال والفلسفة والقيم والأفكار والثقافة والعلاقات والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي.
وهذا أمر طبيعي؛ فالتكنولوجيا والموارد تعيد على مدى التاريخ والجغرافيا صياغة الأمم والحضارات، ومن الضروري أن نفكر ونواصل ونعيد التفكير في التحولات والاستجابات الاجتماعية للتكنولوجيا، وأن نلاحظ ما يجب أن ننشئه وما يجب أن نتخلى عنه، وما يمكن أن يبقى وما يمكن أن يتغير، تقول عالمة الاجتماع الكندية تشيري توركل: "الكمبيوتر لا يقدم لنا الأشياء فقط، إنما يجعل منا شيئا ما"
ولم يعد جديدا الجدل في تغير الأعمال والمؤسسات بسبب شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه المؤسسات أن تعتقد أن الانترنت والحوسبة تمثل حلا تلقائيا للمشكلات أو أنها تؤدي تلقائيا إلى التقدم وتحسين بيئة العمل والإنجاز، يقول الفيلسوف الفرنسي بيير ليفي: الانترنت ليست مصدرا للأخبار، لكن يمكن لمنصات الأخبار أن تستعملها، ولا يؤدي الاستخدام الجيد للإنترنت ولا حشد المعلومات إلى حل عام للمشكلات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية.
وأصبح في مقدرونا اليوم أن نملك قدرا هائلا من البيانات والمعلومات، لكنها ثروة لا تكفي ولا تغني عن الدراسات والنظريات والأفكار، حتى التحليل الاحصائي للبيانات والمعطيات والذي يغطي عالم اليوم لا يكفي ولا يقدم شيئا من غير مجهود متقدم فكريا ومنهجيا وعلميا، لقد أصبح بين يدي الباحثين والمثقفين والمواطنين مصادر واسعة للمعلومات، لكن ذلك لا يضيف شيئا من غير إعادة إنتاج وتصنيع هذه المعلومات على هيئة دراسات وأفكار وسياسات واستشراف وتأثير سياسي واقتصادي واجتماعي، وفي المحصلة تحسين الحياة. وفي ذلك نحتاج كما يقول ليفي أن نفتح عيوننا لاكتشاف المشكلات الجديدة، ذلك أن الهدف الحقيقي هو أن نكتشف ذواتنا وهذا الهدف هو ما يحب أن نلاحقه دائما، والذي يتوارى بقدر ما نلاحقه، لكنه يظل يوجه مسارنا.
كتب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في عام 1934 قائلا إن العلم يخلق الفلسفة، والواقع ليس أبدا ما نعتقده، لكه دوما ما يجب أن نفكر فيه. ولذلك نتساءل ويجب أن يتساءل كل إنسان؛ كيف تخلق التكنولوجيا الفلسفة؟ كيف تكون الرقمة مشيئة للواقع؟
وفي كتابه عن "التقنية" عام 1958 يقول الفيلسوف جيليبرت سيموندن ما يوجد في الآلات هو من الواقع الإنساني، ومن الحركات الإنسانية المثبتة والمتبلورة في بنى تعمل. فالآلات التقنية كانت ومازالت دائما آلات فلسفية، ماذا يمكن أن يقول الفلاسفة والمفكرون اليوم وقد انتقل الجزء الأكبر من الأنشطة الإنسانية إلى العوالم الرقمية؟، وقد تطورت الحواسيب الشخصية والانترنت والهواتف الناقلة على نحو يغير جذريا علاقتنا بالعلم والحياة؟ يقول أستاذ الفلسفة بجامعة نيم الفرنسية ستيفان فيال في كتابه "الكينونة والشاشة" نحن في حاجة إلى مفاهيم جديدة أكثر قدرة على إدراك التعقيد الحقيقي للظاهرة الرقمية؛ ويمكنها أن توضح بمزيد من العمق معنى ما نشعر به أمام واجهات الحاسوب. ويصف كتابه بالقول إنه تأمل في التقنية والإدراك، يدرس فيه الرقمي كظاهرة، أي ما يظهر ويقدم نفسه للذات من خلال واجهات الحاسوب وبفضلها. لكنها تقنية تبدو أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، بل هي ظاهرة ذات تعقيد لا نهائي وتعقيد لا يمكن الإحاطة به.
لكني وبسبب المساحة سأشير إلى ظاهرتين نعيشهما جميعا في ظل الرقمنة؛ موسوعة ويكيبيديا، وكيف أمكن لشبكة من المتعاونين والمتطوعين أن ينشئوا هذه القاعدة المعرفية الهائلة! والظاهرة الأخرى هي اللجوء غير العادي الى التكنولوجيا الرقمية لأجل كل شيء، .. يقول ساخرا الباحث الروسي في علم الاجتماع التكنولوجي يفغيني موزروف: لحفظ كل شيء؛ اضغط هنا: إنه جنون البحث عن حل تكنولوجي!