عائد من رام الله .. كانها هي
ها هي إذن..
شيء جبلته ارادة البهي، غفوة على عتبة القدسي قبل ان تحمل نساء إنكيدو جفوة الحياة، ها هي إذن، شيء فيّ يولد لم أرى فيه غير إصطفافي قبالتها بعد غياب تواصل 35 سنة مضت، تغيّر فيها كل شيء حتى برقوق جارتنا، وخوخة "انيسة" الجدة التي لم ارى منها منذ 35 سنة غير قبرها، وحفنة من شجيرات "الميرمية" ظلت تؤنس وحدتها بانتظاري..
ها هي إذن ، تلك التي أتعبتنا، ودوّختنا خلفها، أنثانا التي كادت ذات مساء أن تضيع منّا في زحمة القبل بين العاشقين العائدين، وبين العاشقين الضائعين، أواه ايتها الطريق كم بقي من التفاف وحاجز عسكري للقاتل باسم الرب والأساطير لأرى آخر ما ودعته فيك منذ 35 سنة مضت، شيء يشبه طفولة آفلة لا تريد الإلتفات إلى الخلف، ولا تريد الوقوع في مصيدة النكوص..
ها هي رام الله ، إمرأة الأرض، أنثى الصراط، وامرأة الكون، أنثى الأماسي والصباحات الناعمة، خضرة القلب وماء النبع، دفتر الطفولة الذي تهجيت فيه أول أسرار الحروف، غيث ماطر في صباح كانون الأول أو الثاني، فلا فرق عندي ما دامت كوانين رام الله مثلي تماما لا تحتاج غير وجدان تسكنه العواطف فلا يصحو الا على ميعاد..
هل هذه رام الله..
كان السؤال في أضلعي يزاحم كل ما يحتجزه جلدي خلفه من إبداعات الخالق، كانني في نوبة حلم يداهمني والنعسة على أطراف رام الله تشبه نعسة الصوفي في ذات محبوبه وأسأل .. هل هذه رام الله أم شيئا يشبه المضنى بالوجد وبالهوى فلا يفرق بين الطيف وبين الحقيقة..
هي رامة الله إذن..
كأنني أستدعي البوما كاملا من الصور،، على عتباتها زاحمتني كل الحكايات، طابون "أنيسة" تينة الدار ، وكرمة الحوش، وبرقوقة شذّت عن شقيقاتها، وخروبة غادرت تربتها منذ دهر لكنها هشّت لي، سمعتها تناديني" أنا هنا"، والطريق التي تتعرج نحو "عين قينيا" من جنوب رام الله تهديني خارطة طريق لا تحتاج لاتفاقيات دولية لتحقيق السلام بين قلبين لا يعترفان إلا برحلة الدم والهوى، والحب المحض..
كأنها رام الله.. هل كنت هنا منذ 35 سنة الهو على عتباتها، الطفل الذي كنته قبل ان تضيع مني براءة الأنبياء، الطفل الذي كنته حين لم يكن امامي غير عصفور اصيده لأزين به كرتونة كنت اظنها تصلح وطنا جديدا للدوري السجين..
ضاعت منا أيامنا، فهل أعود الى رام الله الآن لأسترد مساءاتي التي خانتني، وهل لي غير افتراش خد رام الله ، بينما جدي ذو التسعين خريفا ينظر لي ويرعاني تحت كرمته كأنه استعاد 35 سنة من عمره، هل كذبوا حين قالوا لي" كان لا يستطيع المشي او القيام"، لكنه قلبي لم يصدقهم، فقد كان يمشي كطفل، ويضحك كطفل، ويعانقني كل دقيقة كمن استعاد أمه التي حنّ اليها بعد غياب لم يدم غير ساعة..
أنت وليد.. وكنت أحدق فيه، الجد ذو التسعين ربيعا" كأنك وليد.." وتغادر عينيه دمعة لا تزال تحرق قلبي.. وفي كل همسة كنت أستذكر يعقوب الذي كان يصرخ في وجه بنيه" كاني أشم ريح يوسف.."، والجد ذو التسعين خريفا يسأل" كأني أسم ريح وليد..؟!!!.
هنا أستعيد صورة يعقوب المضنّى، ولكن أين لمثلي بقميص يوسف لألقيه على عيني الجد ليرتد بصيرا.. كنت أسأل ، والسؤال ينهر كل الأسئلة، ولا إجابات غير الفضاء المفتوح على سماء رام الله، هنا أمسكت بها بعد 35 سنة كانت كافية لأعرف أنني لم أغادر قلبي.
أشتاق اليها وأنا فيها، ألمس ترابها وشجرها، ولهجات كل القرى التي تتوحد في قلبها بين المنارة الى ميدان الأسود، فلا تتبلبل، كما تبلبلت الألسنة في بابل، هنا رام الله توحد كل اللهجات ولا تترك مكانا للترجمة أو الشرح.
في مقهى البرازيل وسط رامة الله شيء يذهل المتسائل عن حقيقة اللهجات، وعن حجم العتبات التي توصل القرى لقلبها الذي لا يشيخ، وتكتشف وأنت هنا كأن الألسنة واللهجات لا تختلف عن لغة المقاتل الذي يرغب بالحياة رغبته بالموت.
وفي رامة الله تقعد كل الدنيا على ركبتيها ، تجثوا في حالة صلاة على عتبات القدسي فيها، وأسأل من فرط الجوى، أي قلب يحتمل كل هذا الحضور، وكل هذا البهاء الإستثنائي.
لم أستطع البوح.. ثمة نوافذ في رامة الله لم أعرفها، ثمة خرائط تختلط العواطف فيها ولا أعرفها، وثمة زائر عائد يجثو على ركبتيه ليمتحن رغبته بالحياة داخل قلب رامة الله.
كأنها هي.. هي بالتاكيد تلك المرأة الواقفة الشامخة المتدلهة الولهى الناعسة الطروب، الغافية على أكتاف القدسي، تنهر السماء عن الإبتعاد وتحث الشمس للتوقف قليلا في "ميدان الأسود"، لتنير قليلا منارة لا تزال تشهد للحياة بأحقيتها بالحياة..
وفي رامة الله رأيت كل الأشياء، وكل الأنبياء يصلون الضحى على ذبالة شهيد ظلت تضيء مساءات الكون، لتهدي الحيارى والمترددين الى جنة في الحياة قبل الحلم السعيد بالسفر الى جنة الآخرة.
وكل الأشياء رأيتها في رامة الله تختزل خارطة التحولات، وترداد الصدى، هنا في رامة الله تقف كل الدنيا لتسأل" ما الذي يدفع كل المارين بكل لهجاتهم ودروبهم للتمسك بالحياة؟"، وهنا يصبح احتراف الحياة جزءا من تفاصيل اليوم، وجزءا أكثر قدسية من عبادة الدم من أجل حفنة دقائق لا تتخلى عن مجد الإنسان.
كأنها هي .. رامة الله التي تركتها منذ 35 سنة تناغيني طفلا، لأعود اليها وقد شاخت الدنيا على قدمي، ولم أفقد أبدا بوصلتي لخلاخيلها..
وفي رامة الله وجدت روحها وعقلها وقلبها ودمها، لكنني تعبت في البحث عن ثوب زفافها....