شيء عن حماه.. عن العاصي والعُصاة

شيء عن حماه.. عن العاصي والعُصاة
الرابط المختصر

حماه تستعيد ثوبها وتقذف في وجوهنا كل صمتنا الذي قتلناها به منذ ثمانينيات قرن مضى لم نلد فيه الا بجوار دبابة، او في خندق، او بجانب جثة يتشاور الدود مع القاتل من أين سيبدآن بطمس معالمها.

ها هي حماه اليوم تشبه ما كانت فيه بالأمس، بعض جثث لا أحد يعرف كم عددها يتم تطهيرها في العاصي رميا بالماء هذه المرة بعد ان رميت بالرصاص، الآن فقط تثبت حماه في وجوهنا ان الماء والرصاص يمكن ان يتحدا على جثة الضحية.

وحماه اليوم كمن يعتلي سجادة ليعبد الدم، ليصلي لاله من دم، بعد ان اصبح القاتل في سوريا مجرد كائن يتلهى بالدم، ويعبث بالحياة، ويستعيد مجد القتلة منذ اصبح القتل حرفة لكل خارج على تعاليم الالهة.

رجالات حماه وأطفالها ونسائها اليوم مجرد قرابين للعاصي، ومجرد خلاخيل من لحم حموي نيء تلوكه دبابات القاتل باسم الاحاجي والالغاز تارة، وباسم الدولة القاتلة تحت يافطة المقاومة والتحرير تارة أخرى.

هل نحتاج لكل هذا الهذيان في دمشق لنعرف تماما كيف يتم ذبح المواطن باسم الرئيس من أجل فنجان قهوته الصباحي، هل ندرك الآن الفرق بين قاتل باسم بدلته الأنيقة، وقاتل آخر باسم تعاليم الأب ومدرسته السياسية القائمة على ذبح التالي حتى يرتجع الأول..

وهل حماه اليوم تشبه سبايا العرب في عصر يزيد الأموي، أم أنها تشبه نفسها اليوم، الكثير من الجثث، والكثير من القتلة، والكثير من الأبرياء الذين ينامون في جوار أبنائهم وهم يدركون تماما أنهم في صباح اليوم التالي قد يكونون في "عرين الأسد"، من أجل حفلة أنخاب للطاهر باسم الرب تارة، وللطاهر باسم القاتل تارة أخرى.

هل هذه حماه التي نعرف؟، هل هذه طواحينها، أم أن هذا عاصيها الذي يهدر ناعما باتجاه العثمانيين الجدد، مخالفا قوة الانسياب الطبيعي للماء، تماما كما هو الدم الحموي الأن تحت مجنزرات القتلة، يعصيها في كل حين، فتريقه في كل ثانية.

هذه هي حماه إذن.. مدينة خارجة على السلطان ، وعلى الخليفة، خارجة على تعاليم الأب الفرد، ومتمردة على الإبن الذي صار سلطانا بعيدا عن خيارات الناس في حماه وفي كل شبر من الشآم.

وهذه حماه.. دم يعصي الجزار في مسلخه، يتمرد على كل تراتيله الوثنية، وينحاز حكما لصدره وقلبه، حماه مثلنا اليوم عارية من الصحاب، باستثناء كثرة كاثرة من الحمويين والشآميين يعرفون تماما خارطة قلوبهم، وبوصلة عواطفهم.

وفي الشآم كما في حماه، قتلة باسم الكهنوت تارة، وباسم العشيرة الدينية تارة أخرى، وباسم الملك العضوض في جلِّق التي لم تعرف في معظم تاريخها غير سلاطين يقتاتون بالدم، ويشربون ارواح الأبرياء باسم السلطة، لكن "الفيحاء" و"جلِّق" وكل حواري الشآم تدرك تماما متى تنتصر، ومتى تقاتل، ومتى تتمرد على قاتلها.

وحماه تستدعي قارب قسوتها اليوم، ففي ذاكرتها ثمة تفاصيل لم تبح بها عن الجثث التي تلقى على الإسفلت بلا أقرباء يدعون قرابتها، وتعرف تماما في تفاصيل تاريخها كيف ان طائرات ودبابات "قصر الشعب" تعودت على قصفها، ولم تفرق في كل وجبة إحتفالية بين جدران الإسمنت، وجدران اللحم الآدمي.

وكأنه قدر أيضا على حماه ان تبقى المدينة الوحيدة في الشآم التي تجرب في كل منعطف إقامة علاقات غريبة بين لحمها ودمها الحموي وبين الطائرات والدبابات والقتلة باسم الفاتح العظيم، وباسم سلطان القبيلة والطائفة.

هذه حماه التي نعرف منذ دهر مضى كيف تودع بنيها إلى آخر الأرض في مياه عاصيها، وهذه حماه التي يجرب فيها سكين دمشق سطوة القسوة والجبروت بعد خلاف ساذج على تسمية المواطن، ومفهوم الإنسان، ومعنى الإختلاف المدني مع السلطة.

في حماه ثمة كثير يقال عنها، تماما كما في دمشق الآن، وثمة ما يقال أكثر عمَّا إذا كان ساكن"قصر الشعب" يعرف الفرق بين بساطير جنوده وسكاكين جلاديه وبين الشعب الذي يحكم باسمه، ويسكن قصرا منيفا باسم شعبه أيضا.

ومن حماه تخرج كل الأسئلة، هل نبكي الروح الحموية التي تزهق بالمجان، أم نبكي الروايات الساذجة لإعلام رسمي لا يتقن غير الرقص البذيء في حضن صاحب الإسطبل، وصاحب الخان من أجل حفل اممي لحشر كل الشعب السوري في زجاجة كوكاكولا.

وفي حماه ثمة أمة تقتل هناك بكاملها، ثمة طفلة فقدت للتو والدها الذي تنتظره ليشتري لها دمية العيد، وثمة طفل رأى والده يستحم مرتين، الأولى بدمه والثانية عندما القيت جثته في العاصي، فتبع ظلها على شطه ينادي أباه، ويبكيه إلى آخر الأرض.

وفي حماه قسوة لم نعرف أختها منذ دول مضت، وسلاطين مروا على الشآم وانتهوا في ثنايا الروايات المجروحة، وثمة أبطال ما لبثوا أن تحولوا الى عناوين في الأخبار وفي الصحف وعلى شواهد القبور.

وحماه تبكي مثلنا عاصيها، ومطيعها، معارضها ومواليها، كافرها ومؤمنها، طفلها وشيخها، تاريخها وحاضرها، حجارتها وطينها، قسوتها ونعومتها، شدتها ولينها، أنوثتها ورجولتها، فليس أكثر من التناقض الفاضح بين مدينة تبحث عن الحياة فيما حاكمها يقودها للموت.

وحماه الان تخرج كطير الفينيق من ركام الأسئلة، لماذا انا بالأمس، ولماذا أنا اليوم؟!، وتضيع الأسئلة كما ضاعت تفاصيل كل الوجوه التي قتلت ذات يوم في ثمانينيات القرن الماضي عندما كان القرن الماضي بكامله قرن الموت والقتل والتآمر على المواطن باسم الدولة والحزب والوطنية الكاذبه.

الآن فقط علينا ان نعترف بأن حماه بعض دم يهمي، بعض طفولة محاصرة بالدخان وبالإجتثاث، وبعض حكايات لم يعد لها مكان غير شاهد على قبر يضم جثث الموتى مكتوب عليه" هنا يرقد المفتونون بساكن قصر الشعب.."