لا زلت آمل أن التجربة الديمقراطية التونسية، وهي التجربة الوحيدة في الربيع العربي التي صمدت أمام كل محاولات التدمير والتخريب والتشويه الداخلية والخارجية، لم تنهر بعد. الموقف لا زال ضبابيا جدا وملغزا رغم وجود مؤشرات وإجراءات معينة لا تبشر بالخير، ومنها إغلاق بعض المنابر الإعلامية المحلية والخارجية المستقلة كمكاتب تلفزيون الجزيرة والعربي والقيام باعتقالات خارجة على القانون – هذا فضلا عن الحدثين الأولين اللذين أطلقا الأزمة الدستورية والسياسية الحالية في تونس في 25 من الشهر الماضي – أي تجميد عمل البرلمان المنتخب شعبيا ورفع الحصانة عن كل أعضائه وإقالة رئيس الوزراء.
ورغم هذه المؤشرات السلبية العديدة والمؤسفة في تونس، فلا زالت هناك -- على ما آمل -- قواعد مؤسسية صامدة في تونس، لعل أهمها وقوف الجيش موقف الحياد بين الأفرقاء السياسيين، وهو ما يميز تونس عن غالبية الدول العربية التي حدثت فيها انتفاضات الربيع العربي. ففي غالبية دول الربيع العربي، وللأسف الشديد، وقفت المؤسسات العسكرية فورا مع القوى الانقلابية ما أدى إلى حمامات الدم ومشاهد القمع والكبت وكم الأفواه والتغول على الحريات المدنية وحقوق الإنسان والزج بعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين في السجون. تحية لجيش تونس! هكذا يجب أن يكون دور المؤسسة العسكرية – حماية الوطن والدستور والمواطنين بالتساوي، وليس حماية رافعي لواء الانقلاب والمتفردين بالسلطة والمستفيدين من استمرار الوضع الراهن.
الجيوش في هذه المنطقة، كما في بقية دول العالم، تقع عليها المسؤولية الأكبر في حماية الديمقراطية – إذا كانت هناك ديمقراطية كما في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وغيرها. فهي إن وقفت إلى جانب الانقلابيين والمتفردين بالسلطة قضت، لا محالة على أي محاولة ديمقراطية وليدة، وقضت معها على آمال شعوب دولها في الحرية وحقوق الإنسان والكرامة والعيش الكريم. أقول بكل ثقة إنه إذا لم تنجح شعوب هذه المنطقة في إقامة أنظمة ديمقراطية ليبرالية حقيقية، فإن لا أمل لها في أية حياة كريمة، ولا في أنظمة صحية أو تعليمية أو قانونية معقولة، أو غير ذلك، تجاري بها بقية دول الكرة الأرضية. وإذا تواصلت الأوضاع في الدول العربية كما هي اليوم، فإن شعوب هذه المنطقة ستظل تراوح مكانها بل وتسير من سيء إلى أسوأ – على كل المستويات، من التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وفرص العمل، بل حتى والأدب والموسيقى. وستظل هذه الشعوب تشتم في مجالسها الخاصة هذه الأنظمة التي حولتها إلى مجرد متسولين على عتبات قصر السلطان تستجديه حقوقها، نعم حقوقها.
في حالة تونس هناك الكثير من الضابية حتى الآن، ولكن ما يزعجني جدا هو الأصابع الخفية لبعض دول الإقليم، التي قال رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي إن بعضها يرى أن تونس كانت "بداية الربيع العربي ولذلك يجب أن تكون مقبرة التجربة الوحيدة الناجحة نسبيا للربع العربي، وهي تونس." ورغم أنني غير معجب بطبيعتي وثقافتي وتجربتي بالحركات الإسلامية السياسية في العالم العربي، حتى لو قبلت بمبادىء النظام الديمقراطي بداية وشاركت في الانتخابات، إلا أنني أعتقد أن القوى الإسلامية السياسية في تونس، وعلى رأسها حزب النهضة، تتصرف كأحزاب سياسية ناضجة، واعية، وطنية وتريد بقاء النظام الديمقراطي. أما الفرع التنفيذي في تونس اليوم فلم أعد متأكدا أبدا من أين يقف بالضبط من التجربة الديمقراطية، وهو أمر مؤسف جدا ومثبط للعزيمة. أن يقوم الرئيس قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري السابق بما قام به في الأيام القليلة الماضية هو أمر مؤسف ومؤلم جدا.
بعض دول الإقليم، وهذه حقيقة، تعتبر الديمقراطية – لا إسرائيل ولا إيران ولا الأمية المستشرية ولا البنية التحتية المتهالكة ولا المياه الشحيحة ولا وباء كورونا ولا عدم مساواة الرجل بالمرأة - عدوها الأساسي. فهذه الدول ترى أن الديمقراطية هي التي ستجردها من امتيازاتها التي لا تستحقها أبدا، فلا هي جاءت إلى الحكم لأنها عبقرية ولا بانتخابات شعبية تعبر عن الإرادة السياسية لشعوبها. هذه الدول هي التي أحبطت الكثير من الثورات العربية في انتفاضة الربيع العربي خلال السنوات العشر الماضية. وهي التي لم يكن يعجبها نجاح التجربة الديمقراطية التونسية التي تخشى أن تتدحرج مع الوقت لتصل إليها. وهي مستعدة لإنفاق مليارات الدولارات – لا من أجل التنمية ولا من أجل نهضة التعليم أو النظام الصحي أو غير ذلك في الدول المجاورة، بل من أجل وأد التجربة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي. إنه أمر بائس ومحزن ومؤلم ومثير للإحباط. هذه الدول في الإقليم تعبث في الشأن السياسي الداخلي لتونس – لا شك لدي في ذلك أبدا.
غير أن ما يشجع قليلا هو أنه رغم نشاط هذه الدول في محاولاتها تخريب التجربة الديمقراطية التونسية فإن المجتمع الديمقراطي الدولي – الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، كندا وغير ذلك من الدول الفاعلة في المجتمع الدولي يقف موقفا مضادا لمحاولات حرف التجربة الديمقراطية التونسية عن مسارها الصحيح. وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن اتصل بالرئيس التونسي سعيد ووصف ما يحدث في تونس بأنه يسبب "القلق لدينا بأن هناك محاولة لحرف التجربة الديمقراطية التونسية عن مسارها". الأهم من ذلك أن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أجرى اتصالا على مدى ساعة مع الرئيس التونسي سعيد قبل أيام. أن يجري مستشار الأمن القومي الأميركي، وهو المستشار الأعلى للرئيس الأميركي، مكالمة لساعة كاملة مع زعيم دولة أجنبية هو أمر في غاية الأهمية. فذلك يعني أن إدارة الرئيس بايدن تعتبر ما يحصل في تونس واحدة من أولوياتها السياسية الخارجية الرئيسية حاليا. وهو يعني أن سوليفان لا بد أوصل رسائل في غاية الأهمية والوضوح للرئيس التونسي. بل ولربما الأهم من ذلك أن الرئيس بايدن لم يتصل بسعيد، كما فعل حين اتصل بالعاهل الأردني الملك عبدالله في أبريل الماضي للتعبير عن تأييده الشخصي وتأييد إدارته للملك الأردني في مواجهة الأزمة السياسية التي واجهها الأردن في تلك الفترة. أعتقد أن الرئيس سعيد يتفهم مواقف هذه الدول وأهميتها لتونس في مساعدة البلاد على الخروج من أزمتها الاقتصادية والصحية الطاحنة. هذه هي الدول صاحبة القرار في مجلس الأمن وفي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها الكثير.
دعوني أذكر أن إدارة الرئيس أوباما لم تنجح في عكس التيار الانقلابي في دولة عربية كبرى في العام 2013، ولكن تونس ليست تلك الدولة التي نجح فيها الانقلاب، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن إسرائيل ليست حاضرة في ما يحدث الآن في تونس كما كان الوضع في تلك الدولة العربية الكبرى في العام 2013. إسرائيل حينئذ تحدت إدارة أوباما التي كانت تعترض على الانقلاب باستعانتها بحلفائها الأقوياء والكثر في الكونغرس، وهي وللأسف الشديد نجحت في ذلك.
لا زلت متفائلا أن تونس ليست تلك الدولة العربية الكبرى. ولا زالت لدي ثقة عالية في الشعب التونسي أن يرفض حكم السيد الفرد، الوحيد، المطاع، الذي لا يخطىء، بعد عقد كامل من التضحيات للوصول إلى تجربة ديمقراطية رائعة في تونس الحبيبة. ولا زلت آمل أن يواصل الجيس التونسي الوقوف على الحياد في ما يحدث، كما وقف الجنرالات الأميركيون ضد دونالد ترامب حين حاول نهاية العام الماضي أن يخرب واحدة من أكبر وأقدم الديمقراطايت في العالم. كما لا زلت واثقا في النظام القضائي المستقل لتونس في أن يقف حائلا دون اشتطاطات قيس سعيد وتغوله على السلطة التشريعية والقانونية في البلاد باسم الإصلاح ومقاومة الفساد. هناك طرق عديدة في الأنظمة الديمقراطية لمكافحة الفساد وغير ذلك، ولكن الانقلاب ليس أحد هذه الطرق إطلاقا. إطلاقا.
إذا كان الرئيس سعيد صادقا في ما يقول، فعليه أن يطرح فورا خارطة طريق بالتشاور مع الأحزاب السياسية التونسية الرئيسية لإعادة تونس بتجربتها الديمقراطية الاستثنائية إلى طريق الصواب وإعادة ترسيخ الشرعية والدستور التونسيين. على الرئيس التونسي أن يتذكر أن مجلس النواب الذي جمده بجرة قلم مؤلف نمن 217 عضوا هم كلهم انتخبوا مباشرة من الشعب التوسي ويتمتعون، ربما أكثر منه، بالشرعية السياسية والدستورية. وإلا فإن الرئيس التونسي يكون قد قام فعلا بانقلاب مخملي على الديمقراطية الوحيدة التي جاءت نتاجا لربيع عربي قاس ودام. وإذا كان الرئيس سعيد يعتقد أن مكافحة الفساد والتغول على السلطة المدنية يأتيان عن طريق الانقلابات، فما عليه إلا أن ينظر في أي اتجاه يريد من حوله!!
مفيد الديك إعلامي ودبلوماسي أميركي سابق.