انتظرني على أبواب عمان
إن عدت وحدك فانتظرني على أبواب عمان،هناك نلبس أشياءنا ولا يداهمنا الخريف، وإن عدت وحدك فانتظرني في قلب عمان،هناك نرتدي أقنعة الزفاف ونرتدي أشياءنا المنسية ونعبر للضحى.
أن وصلت عمان قبلي فانتظرني على العتبات، تريث قليلا في الدخول فثمة قلب يلهث خلفك للوصول، وإن كنت صافحت عمان قبلي فانتظر كفي، انتظرها قليلا لتعبر الى رؤياك كأنها أسطورة تمتد من جيل لجيل.
أيها العابر عمان قبلي انتظرني قليلا .. قليلا فقط، لأهيء القدسي فيَّ ناهضا للدخول وللعبور وللتلقي القدسي البهي من شفتيها فثمة جسم هنا وروح هنا تتمطى للعناق الجميل.
استري تعبي..
قلت لعمان وقد فتشت عن ضحاها وصباحاتها، استري تعبي عمان فقد نسيت على أدراجك عمري الذي انساح تحنانا في المزاريب..
قلت لعمان آوني يا امرأة تتقن إيواء عشاقها، آوني من سفري اليك، آوني مني فيك، فقد نسيت على أدراجك أحمال الفاتحين الذين أتقنوا العبور منك واليك الى كل جهات الأرض.
وقلت لعمان.. أبحث عن ضحاك في سمات الأمس، في سمات الغد، في هوية النائمين على ضفتيك، في الأسماء الكثيرة التي تفتح على الأفق نياشين انتصارنا على أنفسنا فيك..
وعمان لم تقل شيئا.. لم تقل لي تماما كيف أن ذراعيها لم تملاَّ حملي وحمل من فيها، حمل الراحلين إليها، وحمل الناجين منها وفيها إليها، ولم تمل حمل المغادرين الى كل الضفاف، عمان قالت لي شيئا مختلفا هذه المرة . .أومأت برأسها لي قليلا، وحنَّت يديها وقبَّلتني.
هل فيها كل هذا الضحى .. سألت كثيرا عن ضحى عمان، عن غشيان فجرها لليلها البريء من كل دم، ومن كل فحش، ومن كل رذيلة، قلت لها متى أمسك الضحى فيك، ضحكت، تلوَّت قليلا كامرأة تخرج لي من كتاب الأغاني، رنّت ساعتها قليلا، كان ضحاها كما القمر يتلو فيها صلاة الصبح، والفجر ينبلج بين حناياها وردا ناعسا على الأكتاف.
وعمان مثلي تماما، فيها الضحى فجر ممتد الى آخر الساعات، وفيها الأيام أعياد صبايا يغسلن الجدائل تقربا لربة عمون، ويغسلن خطاياي على أعتابها.
ذهب الداخلون اليها خلسة لضحاها، لإنبلاج صبحها من كتب التواريخ الغضة، ليس فيها من يفسد الود الذي ران على شمسها، وعلى أقمارها، وعلى جبالها السبعة، وجبلها الثامن، ناسها وسكانها وأحبابها، وقبورها وأحياءها، وتاجها.
وعمان أنا، ونحن وهم، وهي هي التي تحضننا في قلبها البهي وتنتج فينا "نعسة الأردن"، وخوافي الجوارح والكواسر والبلابل، ورنات عود ظلت تؤنس وحشة دربنا في الطريق المسائي إليها.
قلت لعمان وأنا العاشق الصب، متى نستريح من صهد المحبين عمان، رنت خفراء ناعسة الطرف، وبدت تتجلى كعروس تتدله ليلة زفافها، وهمست، عندما ينبلج الصبح، ويهجم الضحى" أليس الصبح قريب؟".
عمان التي اعرف لغة بين قلبين، نعسة خفراء على الطريق المؤدي إليها من كل جهات الأرض، سرير طفل، وقلب أب، وحب أم، وحكايات جدات، وسبيل وحيد الى الحياة يبدأ منها، ويلقي ترحاله على أعتابها مدركا ان ثمة سرير للغريب بين أضلاعها.
وانا في عمان لا اثر لي في حياد اللون بين الصليب والهلال، لا لون لي في الحياد، فبيني وبينها كما بيني وبيني، شيء يشبه ظل الرجال، وظلال النساء ينشدهون في ألوانها وفي ناموسها وفي أجراسها ومآذنها، في بدويها وريفيها وحاضرها، في ماضيها العتيق وفي قادمها الجميل.
وفي عمان أبني حبات مسبحتي، وأبني فيها حضني المكرَّم عن كل إتهام، أبني فيها طريقي إليَّ، وطريقي إليها.
وعمان فينا احتفال القمح بين قبيلتين، زركشة الأماسي حين لا تغيب عمان عن زخرفها، هي تجلي النيزك في تفاحتين، ونعسة عاشقين تلاوما على تفسير عشب الحديقة لماذا لم يكن مهذبا تماما تجاه عناقهما.
وفي عمان تمَّ لي ما تمَّ لي، بعض خطى لعهد الهوى، وبعض عناقات تحتل مني كلي، ذاكرة تنهض للأصيل فيها، وكفان تتقنان المصافحة، وعقلا يتقن الصفح، ولا يحسن الصفع.
وعمان في أولها وآخرها نصفي الحاضر فيها، ونصفي المنسي خارجها يشرح لنصفها البهي كيف تعلمنا إجتياز إختبار حفظ حروفها بين الحجر والرخام والطين.
وعمان ليست مدينة فقط، هي اللغة الفاصلة بين التراب والهواء، وهي تكوين الماء من نسيجين، وهي غرفة مجاورة للحياة تفشي فينا أسرار الكون، وهمسات الأسرار في غرف أخرى تمتد منها وتنتهي إليها.
وعمان جارتي التي عرفت أول حب في عينيها، وعرفت كل الذين أعرفهم أو أولئك الذين ضللنا الطريق إليهم، عمان حارة من نسيج حريري يجمع الكون في تفاحة فشلنا في تفسير كنهها، وملكوتها.
وعمان ليست عاصمة فقط، إنها بحر من المكارم يسَّاقط فينا مطرا ، هي فلذة الكبد الذي لا نستبدله ولا ننكره، وهي هي التي لم تتبدل لنا وإن كنا نحن من تبدلنا فيها، هي فرصة العمر لالتقاط آخر الأنفاس بين السماء والأرض، وهي هي التي لا نحترب فيها على تفسير الفرق بين معادلات القسمة والضرب.
وعمان في أولها وفي آخرها نص البراءة من كل المتون الخارجة على القبيلة، وعلى الملكوت، وعلينا..
هي عمان.. ضحى لا يطالها تبدل الوقت وخراب الساعات، وهي عمان هي التي لا تزال فينا وطنا وليست جواز سفر وأرقام يستبدلها البعض على فنجان قهوة في مقهى قصي.