من المعلوم أننا في الأردن – وأقصد الشعب الأردني- يهتم اهتماماً واسعاً وكبيراً في التعليم، إذ ينفق الأهل كل ما لديهم من أجل تعليم أبنائهم، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل ذلك، رغبة منهم في أن يكون أبناؤهم أفضل حالاً بالاعتماد على ما يملكون من شهادات تؤهلهم للحصول على وظيفة ومكانة اجتماعية أيضاً، ذلك أن الأردنيين يرون أن لا خيار أمامهم إلا بالتعليم، بسبب عدم وجود موارد أخرى في بلدهم من مثل المهن والحرف التي يمكن الحصول على الرزق بها دون الحاجة إلى الشهادة.
هذا العطش للتعليم والتنافس فيه تم استغلاله من جهتين؛ الحكومات ممثلة للنظام السياسي، من خلال فرض المناهج التي تتماشى مع رؤيتها وتحقق مصالحها الآنية، وتحقق نوعا من الولاء الزائف الشكلي، وكذلك القطاع الخاص من خلال الاستثمار الواسع وتحقيق الأرباح الكبيرة.
كل ذلك كان سببه استغلال حاجة الناس ورغبتهم في تعليم أبنائهم كما ذكرنا، لكن بعد فورة الاهتمام بالتعليم، ونتيجة المتغيرات العالمية، ومعرفة الناس بما يدور في العالم، أصبح هناك متطلبات جديدة، وأصبح الناس يرون الضعف والقصور والوهم الحاصل في تعليم أبنائهم، وبدت من خلال المقارنات العالمية الصورة الأخرى للتعليم، التي كانت مختفية خلف حجب الحاجة، فقد كان الهدف الحصول على الشهادة للمنافسة على الوظيفة، أما اليوم فيبدو ذلك غير كاف، إذ أصبحت الكفاءة والتميز والإبداع جزءاً من محددات الحصول على الوظيفة أيضا، وطبعاً لا ننكر أن الواسطة ما زال لها دور في ذلك، لكن لم يعد بالإمكان الاعتماد الكامل عليها، وبخاصة إذا خرجنا من داخل الحدود ليصبح التنافس على مستوى العالم.
لقد وجدنا أنفسنا أمام حالة تعليمية متراجعة، تهتم بالشكل أكثر من المضمون، وبالكم دون الكيف، وبالعدد دون الجودة، تعليم يقوم على التلقين والحفظ والاسترجاع والتنميط، ويخلو من التميز والإبداع والنقد والتفكير، تعليم يلقن النصوص ولا يشتبك معها، ويقدس الماضي دون نقده، ويلعن الحاضر دون التأثير فيه، ويخشى المستقبل دون العلم على صناعته، تعليم "معلّب" يصلح لوجبات سريعة تلقي بقايها في القمامة بعد إكمالها. تعليم يحشو عقول الطلاب بالمعلومات الجامدة، وحين الحاجة إليها لا نجدها في الواقع ولا نستخدمها في الحياة ولا في حل المشكلات، والدليل أن المشاكل في الجامعات وبين الطلبة تُحل بطريقة بدائية، تقوم على الضرب والطعن، ولا علاقة لها بما يدرسه الطلاب من منهج علمي يقوم على التفكير والفرضيات ورسم الخطط والبدائل.
هناك، كما يرى باولو فريري، نوعان من التعليم؛ التعليم البنكي والتعليم الحواري، فالتعليم البنكي يقوم على التلقين والتنميط والحفظ، ولا يفتح مجالاً للعقل ومواجهة الواقع، وربما يهرب من الواقع لأنه لا يستطيع التعامل معه، وهو ما ينتج جيلاً منسحباً من ذاته ومفصولاً عنها أيضاً، يقول كلاماً جميلاً لكنه يتصرف عكسه، وربما هذا ما نشاهده عند المثقفين والأكاديميين مثلاً، فهم يتحدثون عن الحرية والنقد وقبول الآخر، لكنهم في الممارسة العملية لا يستطيعون الانسجام مع مقولاتهم تلك. وبسبب هذا النوع من التعليم البنكي فإن المؤسسات التعليمية- على رأي فريري- لن تعود قادرة على التأثير الفعال في عقول أبنائها، ولا على تشكيل فكر نقدي لديهم يحميهم من الفكر الواحد، كما يحميهم من الفكر المتسلط، ويحميهم من الخرافة كما يحميهم من الاستسلام لواقعهم، فهم متلقون لكل ما يسمعون دون نقد أو تمحيص، أما التعليم الحواري فإنه يستنهض كوامن النفس ويجعل الطالب قادراً على المشاركة فيما يتعلمه؛ أي أن المعلومة مشتركة بين الطالب والمدرس، والطالب منتج للمعرفة وليس مستهلكاً لها، وبذلك يتفتح عقله ومواهبه، ويمتلك الشجاعة على النقد والبحث والإبداع.
نحن بحاجة في تعليمنا إلى مرحلة ما قبل الصناعة، وأعني به التعليم القائم على الإبداع والتمييز والتفرد، التعليم الذي يوازي الفن والأدب وليس التعليم الذي يوازي الصناعة، فنحن نهتم كثيراً بالتعليم التقني التلقيني على اعتبار أن ذلك هو متطلبات السوق، ويكاد يكون مضمحلاً في جانبه القيمي، ( كما يقول علي عزت بيغوفتش)، وفي هذه الأيام من الممكن جداً أن تتخيل متعلماً قد مر بجميع مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعة دون أن يكون قد تعلم أن يكون إنساناً خيراً أو أميناً، فهو يتعلم الكتابة والحساب والطبيعة والسياسة والاجتماع، ويجمع كمًا هائلاً من المعلومات، ولكنه يتصرف بطريقة الإنسان غير المتعلم، فلا فرق ثقافياً بين الاثنين، وذلك –كما أرى- ناتج عن نوع التعليم الذي تلقاه، إنه يحفظ ويحمل أسفاره، وربما يحمل الماء على ظهره ويقتله الظمأ.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.