الإعلان الدستوري السوري بين المشروعية والشرعية

الرابط المختصر

انتظر الجميع صدور الإعلان الدستوري السوري كي يكون معيارًا للحكم على نظام جاء من خلال ثورة ومتوشحًا بتوجهات إسلامية، حيث أمامه تحديات وتساؤلات مهمة حول شكل الحكم وهوية الدولة القومية والدينية ونظام الحقوق وكيفية تطبيق العدالة الانتقالية وتحقيق الأمن المجتمعي وحماية سوريا من الانقسام. وعليه فمن المفيد تفكيك وفهم الإعلان الدستوري السوري والذي يمكن قراءته من عدة جوانب إلا أنني سأقرأه من خلال تقسيمه الى خمسة مكونات له، مع الأخذ بملاحظة أن من سمات الإعلانات الدستورية أنها رشيقة ولا تدخل بتفاصيل واسعة:

منطلقات ومبررات الإعلان الدستوري:

    ركز الإعلان على عدة منطلقات أساسية لهذا الإعلان يمكن إيجازها باستعراض لمبرر ما تعرض له الشعب السوري من الظلم والانتهاك من قبل النظام السابق الاستبدادي وتعرضه للإبادة وانتهاك للحقوق وغيره، واسقاط النظام عبر الثورة السورية، ومخرجات لجنة الحوار الوطني والتي تمثلت بالحفاظ على وحدة وسلامة سوريا، أرضا وشعبا، وتحقيق العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا، وبناء دولة المواطنة والحرية والكرامة وسيادة القانون، وتنظيم شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية وفق مبادئ الحكم الرشيد. وأضيف الى ذلك استذكار أهمية الدساتير السورية السابقة التي تؤكد على العمق والتنوع الحضاري لسوريا.

إن هذه المنطلقات للإعلان مهمة في الغاية فهي قد وضعت معاييرًا لهذا الإعلان من رفض الاستبداد والتوافق الوطني حول وحدة وسلامة الأراضي السورية، ومنظومة للعدالة، وتحقيق دولة المواطنة. وبالتالي فهي تشير الى دولة مدنية تسعى للأمن وحماية الدولة والإنسان دون إعلاء أي منها على الأخرى، و استذكرت الإرث الحضاري لتاريخ سوريا رغم رفضها للنظام السابق.

 

هوية الدولة

    أبقى الإعلان الدستوري على المكونات الرئيسية لهوية الدولة السورية كما وردت في الدساتير السابقة، منها أنه لم يذكر أو يحدد دينًا للدولة، وإنما حدد دين رئيس الدولة من جهة وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع من جهة أخرى.

ولكنه بذات المادة حفظ حقوق الطوائف الأخرى المتعلقة بالأحوال الشخصية مع ضمان لحرية المعتقد بما لا يخالف النظام العام. وهذه نصوص متلازمة ومترابطة من حيث المكانة القانونية.

من هذا الجانب يلاحظ أنه لم يطرأ تغيير بهذا الإعلان على الدستور السابق، ولكنه يختلف عن الدساتير العربية التي تتكلم عن دين الدولة وليس دين رئيس الجمهورية. فالدين للأشخاص وليس للدولة والتي هي كيان اعتباري. ولكن من الملاحظ أن يبقى الإعلان على الفقه كمصدر للتشريع، فإن كان توجه الحكم الحالي نحو العلمانية أو نحو دولة مدنية أرحب من حيث الحرية الدينية فيستوجب الاكتفاء بأقسى حال باعتبار الفقه أو أي مبدأ إسلامي أحد المصادر للتشريع أو اعتبار الإسلام يمثل هوية المجتمع، كما لا ينبغي التوقف عند الفقه الذي هو مصدر ثالث يشكل تأطيراً وتقييدًا أكثر، أو الا يشير الى أي مرجعية دينية أصلاً إن كان الذهاب الى دولة علمانية.

وإن كان التوجه نحو دولة دينية أكثر فإن ذلك يستوجب إعادة النظر بالفقه الإسلامي أيضًا كمصدر أساسي للتشريع، لإن الفقه مصدر يقيد وليحل محله الشريعة الإسلامية. الا أن الإعلان أبقى الأمور على ما هي عليه!

أما بالنسبة الى الهوية اللغوية فإن الإعلان أبقى على أن اللغة العربية لغة الدولة، ومن الطبيعي أن يبقي على ذلك في ظل أن سوريا ذات تاريخ أموي وهي تكتنف حضورها في محيط عربي، وربطًا بسياق رفضها للنظام السابق الذي عزز من علاقاته مع إيران، كما وإن أي تعديل على صيغة "عربية" سوريا في ظل تمدد الاحتلال الإسرائيلي سيعطي رسالة سيئة جدًا. 

إلا أنه بقي الإشارة الى مطالب الكورد باعتبارهم قومية يطالبون بحقوقهم الثقافية واللغوية خصوصا، وعيونهم شاخصة على نموذج الدستور العراقي الذي اعتبر الكورد مكون ثقافي ثاني للعراق، يضاف الى ذلك وجود دعوات لبعض الكرد نحو الانفصال أو الحكم الذاتي بالإضافة الى امكان لعب دول خارجية على تمزيق سوريا إقليميا باسم "الحفاظ على حقوق الأقليات".

 فماذا فعل الإعلان الدستوري حيال هذه المسائل جميعها؟ لم يجري الإعلان أي تعديل على مسألة حقوق المكونات والأقليات اللغوية أو الطائفية تاركًا إياها لمرحلة لاحقة من خلال الحوار الوطني المستمر وتشكيل الدستور النهائي، إلا أنه لم يترك الأمور على عواهنها هكذا دون تقديم ضمانات أولية لاحترام حقوق الكورد ولضمان عدم تقسيم سوريا خلال المرحلة الانتقالية. إذ تناولت المادة السابعة منه برفض تقسيم والانفصال والاستقواء بالأجنبي من جهة وبذات الوقت منع أشكال الفتنة والانقسام والتحريض على العنف من جهة أخرى، وفي مواد أخرى تلتزم الدولة بنبذ التطرف، وحظرت على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، ويُحصر السلاح بيد الدولة.

هذه المواد جميعها تشير الى معادلة مفادها دولة سورية موحدة دون انقسام وبذات الوقت تحترم حقوق الأقليات القومية، رغم أن الإعلان لا يستخدم لغة الأقليات، كما أنه لم يسمي الكورد أو أي مكون آخر غير عربي، ولكنه ضمن حقوق كل السوريين برفض التطرف والاستقواء بالأجنبي وحصر السلاح بيد الدولة.

 

حقوق المواطنين:

    كعادة كل دساتير العالم والعالم العربي نص الإعلان على حقوق للسوريين في الباب الثاني "الحقوق والحريات" في مجالات عديدة كحرية الرأي والتعبير والتعليم والعمل والمحاكمة العادلة والأسرة وحقوق المرأة غيره، فلا داعي للتفصيل لأن تلك الحقوق أصبحت مستقرة و معروفة، ولكن الملفت بهذا الإعلان أنه استخدم مصطلح حقوق الإنسان عدة مرات بشكل صريح، ما يشير الى أن منظومة حقوق الإنسان مرجع رئيسي له رغم أن الديباجة لم تشر إليها، وقد يقول قائل إنه ربما يأتي استخدامها كنوع من الملاعبة اللغوية ويمكن توظيفها بالمستقبل بمفهوم حقوق الإنسان بالمفهوم الإسلامي. إلا أنه يأتي الرد وحسم الأمر من خلال مادة صريحة قاطعة الدلالة هنا وهي المادة 21 التي يستهل بها باب الحقوق والحريات، وهذا نصها:

"تصون الدولة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتكفل حقوق المواطن وحرياته.

تعد جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءا لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري."

إن هذه المادة لم تجعل حقوق الإنسان مرجعًا للدولة وحسب بل جعلت الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والتي صادقت عليها الدولة والتي قام بها النظام السابق - رغم أنه لم يحترمها قطعًا - جزءًا من الإعلان الدستوري أي أن حقوق الإنسان بمرتبة الدستور وليست بمرتبة القانون، وبالتالي فمن يحدد منظومة حقوق الإنسان هي تلك الاتفاقيات الدولية وهي ترتقي الى قيمة دستورية، يشار هنا الى أنه نادر ما تعتبر دول العالم الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بمرتبة الدستور، فيما جعلها الإعلان الدستوري كذلك وهذا أمر في غاية الأهمية.

 

منظومة الحكم:

قد يكون هنا مربط الإشكالية، فإن الإعلان فيه مواد متباينة في تشكيلة الحكم، فمن جهة قد كفل في باب الحقوق والحريات حق المواطنين في تشكيل الأحزاب وحق المشاركة السياسية وإنشاء الجمعيات والنقابات، وقد يكون مألوفا حق تشكيل الجمعيات والنقابات في الدساتير العربية، لكن موضوع الأحزاب ليس دومًا مضمون فيها، وهنا إن تشكيل الحق في تكوين الأحزاب مهم، ولكنه بالطبع لا يكفي وحدها لتكوين سلطة ذات شرعية ومشروعية كافية.

صيغت بنود الحكم على قاعدتين أساسيتين هما نظام جمهوري رئاسي، وفصل للسلطات، وإذا ما أضيف اليهما حق تشكيل الأحزاب فيمكن القول إنها معايير أولية للحكم الديمقراطي، ولكن ليس بالشكل التام، فرغم أن السلطة التشريعية تتمثل في مجلس الشعب المنتخب بثلثيه إلا أن ثلثه الأخير يعينه الرئيس. ويتمتع مجلس الشعب بصلاحيات تشريعية واسعة بما فيها المصادقة على المعاهدات الدولية فيما يكتفي الرئيس بحق التوقيع النهائي عليها، كما ويتمتع مجلس الشعب بالحصانة أمام السلطة التنفيذية إلا أن تعيين ثلثه من قبل الرئيس لا يفي بشرط الفصل التام بين السلطات. 

أما القضاء فمستقل وأهم أمر أنه قد ألغى المحاكم الاستثنائية التي كان النظام السابق ينشئها بحكم القانون أو بدونه. ورغم أن مساءلة الرئيس تكون من خلال المحكمة الدستورية – التي لم تكفلها معظم الدساتير العربية – إلا أن تكوينها يتم بالتعيين من قبل الرئيس وترك معايير عملها الى القانون.

 

العدالة الانتقالية:

قد تعد هذه من الأمور الهامة التي جاء بها الإعلان الدستوري، إذ أورد في الديباجة أن العدالة الانتقالية محور أساسي سندًا للجنة الحوار الوطني، وأشار الى استحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آلية عمل تشاورية لإنصاف ضحايا النظام السابق، ولا ينطبق على الجناة في الجرائم الدولية الكبرى كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية وكل الجرائم مبدأ رجعية القوانين، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأنها تتفق مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان، وبالتالي فقد "دسترت" هذه المادة 49 من الإعلان هذه الجرائم وجعلت لها قيمة دستورية، وهو ما يعطي لسوريا نظرة إيجابية انفتاحية من جهة، وكفلت عدم الإفلات من العقاب من خلال ضمان تنفيذها على المرحلة السابقة ولا تسقط بالتقادم.

كما أنها ألغت القوانين الاستثنائية والأحكام الصادرة عن محكمة الإرهاب والغت الإجراءات الأمنية الاستثنائية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية لأنها قامت على قمع الشعب السوري، وعدا ذلك من القوانين الوطنية المعمول بها وإلى حين الوصول الى دستور جديد دائم بعد خمسة سنوات حددت كمرحلة انتقالية فإن القوانين النافذة يسري العمل بها الى حينه.

 

ماذا يمكن القول بهذا الإعلان الدستوري؟ أنه إعلان وازن ما بين متطلبات المرحلة وضمان الحقوق والحفاظ على الدولة السورية من خلال نظام حكم عملي ليس مثالي وهو أولي وبدائي من حيث "ديمقراطيته" ولكنه مقبول في ظل السياق الصعب الذي تعيشه سوريا ولكنه ينبغي تعديل نصوصه بالدستور الدائم بالطبع مع الحفظ على العديد من مواده المهمة خاصة المتعلقة بحقوق الإنسان. يمكن القول إنه دستور وازن ما بين "الشرعية" أي ضمان حقوق للمواطنين من خلال منظومة حقوق الإنسان ومساءلة الجناة التي ترضي الناس، وما بين "المشروعية" من خلال أدوات حكم لمرحلة انتقالية تتسم بالعملية حددت من خلال دستور واعطاها صلاحياتها.

والأهم من الناحية الدستورية هو الالتزام بنصوص وروح هذا الإعلان الدستوري كي يوصل السوريون إلى بر الأمان في أقرب فرصة ممكنة.