التعليم المتحجّر

التعليم المتحجّر
الرابط المختصر

قد يكون مصطلح التحجر جديداً في وصف التعليم لكنه يبدو معقولاً عند النظر للتعليم في بلادنا، فربما يلاحظ أنه يشبه التحجر في حركته وتأثيره، فهو شكل صلب لا يتغيّر بشكل طبيعي، إلا من خلال عوامل الحت والتعرية التي يتعرّض لها، و يحتاج إلى زمن طويل، وهو حتى في تغيره لا يعدو أن يكبر من خلال التكلسات الزائدة عليه، أو يصغر من خلال العوامل الطبيعية التي تعتريه، ويبقى مادة صلبة، وقد وجدت أن هذا الوصف ربما ينطبق على التعليم في بلادنا، فمنذ سنوات طويلة لم نجد أي جديد في التعاطي مع العملية التعليمية إلا ما أحدثته العوامل الخارجية، باستخدام الأدوات الجديدة ومعطيات العصر دون أن نكون جزءاً أصيلاً في تكوين تلك العملية والتأثير بها.
جاء في معجم المعاني "فكر متحجِّر: فكر متصلِّب جامد، لا يقبل النقاش، قاسٍ، متشدِّد في الدِّين أو الرأي أو العاطفة، تحجَّر الشَّخصُ أو الفكرُ: تجمَّد ولم يتطوَّر مع التَّقدُّم، ظلَّ في إطار تقليديٍّ جامد، تحجَّر في هذا المحيط". ولو نظرنا إلى التعليم منذ عقود لوجدنا أنه أقرب إلى مفهوم التحجر، فلا نجد تطويراً فعلياً حصل على مضمونه، بل ما حصل هو قضايا شكلية متعلقة بقانون النجاح والرسوب والامتحانات والتوجيهي، لكن المنهاج والأسالب والمعلم فلم يطرأ عليه تغيير جوهري، اللهم إلا تغيير شكلي على المنهاج، بتغيير نص مكان نص أو وحدة مكان وحدة، وأما الأساليب فقد شبع المعلمون محاضرات ودورات دون توفير أقل أساسيات البنية التحتية لتحقيقها، فبقيت حبراً على ورق، وأما المعلم فكل ما تم هو زيادة أعبائه من الحصص، ومراقبته في الحضور والمغادرة، وإغراقه في كم هائل من الواجبات الشكلية.
إن المتتبع لوعود تطوير التعليم وإخراجه من تحجره وسكونه لن يصل إلى كبير نتيجة في تلك الوعود، لأن ما حصل لم ينقل التعليم من حالة التحجر إلى حالة الإبداع، فالعوائق كثيرة، منها العقليات المتحجرة، والبيروقراطية المتكلسة، وطرق التدريس المتقادمة التي لم تعد تواكب التطور الحاصل في أساليب التدريس الحديثة، فضلاً عن الرواتب المتدنية والمناخ السياسي المنغلق. وهي عوائق من المفترض النظر إليها ومعالجتها أولاً قبل المرور إلى إصلاح التعليم.
التعليم المتحجر هو الذي يفصل الطالب عن محيطه من خلال تلقينه مقولات يحفظها لينجح في الامتحان وينتقل إلى صف آخر بدون فهم المحيط والعالم والكون والحياة، لذلك فكل تلك المظاهر هي غير موجودة في عالمه ولا يفكر بها، وكما يرى باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين" أن عدم الإحساس بالعالم يعني عدم وجوده، فلِكيْ يعيش الإنسان ينبغي له أن يستشعر وجوده، وليحدث هذا فإنه بحاجة للتعليم الذي يكشف له عن ملكاته الإبداعية في فهم العالم ونقده وتطويره، وهو ما لا يحدث إلا من خلال عملية تعليمية تأخذ الطالب إلى العلم دون أن تقهره عليه، بل تكتفي فقط بسدّ الثغرة بين فهمه الخاص وبين المادة العلمية، ثم تترك له بعد ذلك المجال في الخيال والحوار والبحث، وهو الأمر الذي اعتراه القصور تارة، والغزو تارة، والمقاومة تارة أخرى.
لم يخرج التعليم في بلادنا عن حالته الحجرية إذ بقي تقليديا غارقا في أدواته القديمة، معطِّلاً لقوى الإبداع، مؤدلجاٍ ومسيساً بقوالب فكرية متحجرة تعطل الخيال والإبداع، وتحول القيم إلى شكليات وعبارات جافة، دون دمجها في سلوك المتعلم، لذا فإن فريري يري أن أسلوب التدريس التقليدي ما هو إلا تعطيل للطاقة الكامنة لدى المتعلم، وأنه يستهدف تطويع الطلاب بدافع فكري مرسوم كي يتأقلموا مع عالم القهر. فالإدراك في عملية التعليم والتعلم هو المحور الحقيقي، وليست عملية النقل الميكانيكي للمعارف والمعلومات.
إن التعليم المتحجر يقوم على حشو رؤوس الطلاب بمعلومات محفوظة، يرددها ولا يدرك معناها، ويحصل على علامة مرتفعة في الامتحان دون أن يكون لتلك المعارف أي أثر في سلوكه، ولا في فهمه للعالم، ولا في قدرته على حل المشاكل، وقد ميز فريري بين نوعين من التعليم، الأول سماه التعليم البنكي، وهو عملية أحادية يكون فيها المعلم هو صاحب المعلومة الأوحد، فيودع عقل تلاميذه المعلومات بشكل تلقيني كما يودع الناس حساباتهم في البنوك حتى أجل مسمى، وهو أجل الامتحانات التي يتبخر بعدها كل شيء تقريباً من ذهن الطالب، فهو لم يتعلم وإنما تلقّى المعلومة كالوعاء، مما يقلص مهارته في الفهم والتحليل والنقد، ومن ثم قدرته على أي إبداع، فالأستاذ يعرف كل شيء هنا والطلبة لا يفكرون.
والثاني سمّاه التعليم الحواري الذي يقوم على فهم عميق وحوار ونقد ومشاركة، ويرى فريري أن التعليم البنكي تعليم غير إنساني، فهو يضع الإنسان تحت القهر مرة حين يعلّمه ما يريد بالأسلوب الذي يريد، ومرة أخرى حين يغرس في ذهنه أن التمرّد على هذه المنظومة لا يكون إلا باستبدال دور القاهر والمقهور، فمثلاً قد يريد الطالب أن يكون معلماً لا لأجل العلم نفسه ولكن لأجل أن يمارس القهر الذي مُورِس عليه.

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.