الليبرالية والنيوليبرالية: نشوء المجتمع المدني

الليبرالية والنيوليبرالية: نشوء المجتمع المدني
الرابط المختصر

 

في (ولادة السياسات الحيوية) وهو عنوان سلسلة محاضرات عام1979، يقول فوكو:"ولكننا تجاوزنا تلك المرحلة [المجتمع الجماهيري المنضبط]. نحن لم نعد هناك.لا يسعى فن الحكومة المبرمج من قبل الليبرالية المنظمة ordoliberals في الثلاثينيات، والذي أصبح الآن برنامج معظم الحكومات في البلدان الرأسمالية، لتكوين هذا النوع من المجتمع على الاطلاق. إنه ينشد، على العكس من ذلك، الحصول على المجتمع غير الموجه نحو السلع وتوحيد السلع، ولكن نحوتعدد وتمايز المؤسسات".

 

 

وضع الإقتصاد السياسي والحكومة الليبرالية في محاضرات فوكو عامي 1977 و 1979 في كوليج دو فرانس، موضوع السياسات الحيوية في إطار نظري أكثر تعقيدا. يدرس فوكو في سياق المحاضرات "نشوء المعرفة السياسية" التي وجهت الجنس البشري من العصور القديمة عبر الحداثة من خلال مفهوم منطق الدولة أوسبب الدولة و"علوم الشرطة أو السياسات العامة" (Polizeywissenschaft) ثم إلى نظريات الليبرالية والنيوليبرالية. في مركز هذا يأتي مفهوم الحكومةgovernment. يقترح فوكو "معنى واسعا جدا" لهذا المصطلح، مع الأخذ بعين الاعتبار تنوع المعاني التي كانت تحمله أيضا في القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من أن للكلمة معنى سياسيا بحتا اليوم، إلا أن فوكو يبين أنه حتى فترة متقدمة من القرن الثامن عشر وضعت اشكالية الحكومة في سياق أكثر عمومية. نوقش مصطلح الحكومة ليس فقط في الحياة السياسية ولكن أيضا في النصوص الفلسفية، والدينية، والطبية، والتربوية.إذ بالإضافة إلى الإدارة من قبل الدولة، فإن الحكم يتناول مشاكل ضبط النفس والإرشاد للأسرة والأطفال، وإدارة الأسرة، وتوجيه الروح، وقضايا أخرى. في هذا التحليل عن الحكومة، تأخذ السياسات الحيوية معنى حاسما. وهكذا فإن "ولادة السياسات الحيوية" يرتبط ارتباطا وثيقا بظهور الأشكال الليبرالية للحكومة. يدرك فوكو الليبرالية ليس بوصفها نظرية اقتصادية أو عقيدة سياسية ولكن باعتبارها فنا معينا لحكم البشر.تقدم الليبرالية منطقاً للحكومة يختلفعن كل من مفاهيم الهيمنة في القرون الوسطى وعن منطق الدولة في الحداثة المبكرة : فكرة طبيعة المجتمع التيتشكل أساس وحدود الممارسة الحكومية.

 

هذا المفهوم للطبيعة ليس تقليدا مرحلا أو من بقايا ما قبل العصر الحديث، وإنما هو علامة على قطيعة تاريخية هامة في تاريخ الفكر السياسي. في العصور الوسطى، كانت الحكومة الجيدة جزءا من النظام الطبيعي الموهوب من الله. ولكن منطق الدولة في الحداثة المبكرة يقطع مع هذه الفكرة عن الطبيعة، التي تختزل العمل السياسي وتضعه ضمن سلسلة كونية متصلة. بدلا من ذلك، يقترح منطق الدولة"الطاغوت اللفياثان"المصطنع-الذي يثير تهمة الإلحاد. ومع المذهب الطبيعي (الفيزوقراطية) والاقتصاد السياسي، تعاود الطبيعة الظهور كنقطة مرجعية للعمل السياسي.

 

ومع ذلك، فإن هذه طبيعة مختلفة لاعلاقة لها بالنظام الإلهي للخلق أو المبدأ الكوني. ففي مركز التفكير الليبرالي ـــ حتى الآن ــ طبيعة غير معروفة، هي النتيجة التاريخية للتحول الجذري في علاقات المعيشة والإنتاج: "الطبيعة الثانية" للمجتمع المدني المتطور. استبدل الاقتصاد السياسي الذي برز بوصفه شكلا مميزا من المعرفة في القرن الثامن عشر، المبادئ الأخلاقية الجامدة للتنظيم الإقتصادي التجاري والمالي الإداري بفكرة التنظيم الذاتي العفوي للسوق على أساس الأسعار ال "طبيعية". و يفترض كتاب مثل آدم سميث وديفيد هيوم وآدم فيرغسون أن هناك طبيعة غريبة عن الممارسات الحكومية وأن على الحكومات أن تحترم هذه الطبيعة في عملياتها. وبالتالي، يجب أن تكون الممارسات الحكومية متماشية مع قوانين الطبيعة التي نجمت عنها. لهذا السبب، تحول مبدأ الحكومة من التساوق الخارجي إلى النظام الداخلي.ولم تعد إحداثيات العمل الحكومي الشرعية وعدم الشرعية ولكن النجاح أو الفشل؛ ولا يركز تحليل عمل الحكومة على سوء المعاملة أو غطرسة السلطة ولكن على الجهل المتعلق باستعمالها. وهكذا، للمرة الأولى، يُدخل الإقتصاد السياسي إلى فن الحكومة مسألة الحقيقة ومبدأ القيد الذاتي.

 

ونتيجة لذلك، فإنه ليس من المهم معرفة ما إذا كان الأمير يحكم وفقا للقوانين الإلهية، أو الطبيعية، أو الأخلاقية. بدلا من ذلك ، فمن الضروري التحقيق في "النظام الطبيعي للأشياء" التي تُعرف كلا من أسس وحدود العمل الحكومي. لم يعد فن الحكومة الجديد، الذي أصبح واضحا في منتصف القرن الثامن عشر، يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من سلطات الدولة، ولكنه يعمل من خلال "حكومة اقتصادية"تحلل العمل الحكومي لمعرفة ما إذا كان ضروريا ومفيدا، أم زائدا عن الحاجة، أو حتى ضارا. يأخذ فن الحكم الليبرالي المجتمع وليس الدولة الحقيقية نقطة انطلاق ويسأل: "لماذا يجب على المرءأن يحكم؟ وهذا يعني: ما الذي يجعل الحكومة ضرورية، وما الغايات التي يجب أن تسعى اليها فيما يتعلق بالمجتمع من أجل تبرير وجودها ؟ "

 

لا يتبع الحد من سلطة الدولة على هذا النحو، بأي حال من الأحوال، هذا التحول التاريخي، ولكن. ومن المفارقات ــ أن لجوء الليبرالية إلى الطبيعة جعل من الممكن مغادرة الطبيعة أو على نحو أدق، أن تترك وراءها مفهوما معينا من الطبيعة التي تتصور أنها أبدية، مقدسة، أو غير قابلة للتغيير. بالنسبة لليبراليين، فإن الطبيعة ليست نطاق الحكم الذاتي التي يكون التدخل فيها مستحيلا أو ممنوعا من حيث المبدأ. الطبيعة ليست التحتية المادية التي تطبق عليها الممارسات الحكومية، بل هي التوافق الدائم معها.صحيح أن هناك حدودا "طبيعية " لتدخل الدولة، لأنه يجب أن تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الحقائق الاجتماعية. ومع ذلك، فإن هذا الخط الفاصل ليس سلبيا، لأن"طبيعة" السكانــ على وجه التحديد ــ هي ما يفتح سلسلة من احتمالات التدخل غير المعروفة حتى الآن. وهذه لا تأخذ بالضرورة شكل الاعتراض المباشر أو التنظيم. وبذلك تصبح ممارسات مثل "عدم التدخل"، والتحريض، والتحفيز أكثر أهمية من الهيمنة، والوصف، والتقرير.

في هذا السياق، يمنح فوكو معنى جديدا لمفهوم تكنولوجيات الأمنtechnologies of security، والتي استخدمها في أعمال سابقة. فهو يعتبر أن الجاهزيات الأمنية تعارض الحرية الليبرالية كما أنها شرط وجودها في الوقت ذاته. وتهدف الجاهزيات الأمنية لتأمين وحماية الطبيعية السكانية المعرضة للخطر بشكل دائم، وكذلك أشكالها الخاصة من التنظيم الذاتي الحر والعفوي. يميز فوكو تحليليا بين اللوائح القانونية وآليات الإنضباط ووتكنولوجيات الأمن. تعمل المعيارية القانونية من خلال القوانين التي تقنن المعايير، في حين أن الإنضباط يثبت التفاضل الهرمي الذي يؤسس الفصلبين ما يُعتبر طبيعيا وما يعتبر غير طبيعي، ومناسب وقادر، وغيرها. وهو يعمل من خلال تصميم النموذج الأمثل وتنفيذه،عن طريق استخدام تقانات وإجراءات ضبط وتكيف الأفراد لهذا المعيار. أما تكنولوجيات الأمن فهي عكس آليات الإنضباط تماما: ففي حين أن هذه الأخيرة تفترض معيارا آمرا، تأخذ الأولى المعيار التجريبي نقطة انطلاق، والذي يخدم كقاعدة تنظيمية ويسمح بمزيد من التمايز والاختلافات. وبدلا من ضبط الواقع إلى قيمة محددة مسبقا "يجب أن يكون"، فإن تكنولوجيات الأمن تأخذ الواقع كما هو بوصفه معيارا: أي بوصفه إحصائية توزيع الأحداث، ومعدل الأمراض والولادات والوفيات، وهلم جرا. إنها لا ترسم حدودا مطلقة بين المسموح والمحظور، ولكنها تحدد المنتصف الأمثل ضمن مجموعة من الاختلافات.

ويمكن القول، إذا،  إن الأمن يعمل مع مجموعة من الشروط المائعة، والكميات المتقلبة باستمرار، والإحتمالات المستقبلية.

فمهمة الأمن هي ابتكار نظام متعدد الوظائف، وحساب النتائج السلبية والإيجابية لأي تدبير معين؛ إنه لا ينطبق على حالة ثابتة، بل يتعلق بسلسلة من الأحداث المستقبلية.

فإذا كانت السيادة تحتكر إقليم وتحدد موقع القيادة المركزية، وهياكل الإنضباط هي مساحة تصنع التسلسل الهرمي، فإن الأمن يحاول التخطيط لبيئة أو "وسط حسابي "بالنسبة لمجموعة من الأحداث المحتملة. فالإنضباط مركزي، ويعزل الأماكن، ويخلق القطاعات. ولكن أجهزة الأمن، من جهة أخرى، هي أجهزة طرد مركزي تهدف إلى دمج أشياء جديدة في دوائر آخذة في الاتساع. يسعى الإنضباط نحو تنظيم مزيد من التفاصيل، في حين أن الأمن عند مستوى معين ــ يسمح للأمور أن تأخذ مجراها. الإنضباط، يقول فوكو، يقسم الأشياء إلى مشروعة وغير مشروعة، وإلى هذا الحد فإنه يقوم على القانون الذي يُحدد ويُخصص على نحو متزايد. فالنظام في القانون هو ما يفترض أن يبقى عندما تتم إزالة كل شيء محظور وغير منضبط، وهذا هو ما يكثفه الإنضباط، لأنه يقول لك أيضا ما يجب القيام به, ولذلك فإنه يمكن أن يكون الدير هو شكل الإنضباط المثالي. في كل هذا، يمكننا بلا شك الكشف عن تحول مهم بعيدا عن العمل السابق، حيث مفهوم السلطة "القانوني"على أساس الإنقسامات الثنائية، يقابل بالاهتمام بالتفاصيل والتحويرات في الإنضباط. هنا يبدو الأمر وكأنه مرحلتين للعملية ذاتها، والمقابل هو الأمن.

 

لم يعد نشر جاهزيات الأمن وسيلة لممارسة السيادة على الأشخاص، ولكنه يصبح وفق المذهب الطبيعى، ما يطلق عليه العملية المادية، التي من خلالها لم تعد المراقبة الشاملة قضية. وبهذه الطريقة، يقترح فوكو ــــــــــ وهنا يعدل مرة أخرى وبشكل ملحوظ اطروحات قدمها في وقت سابق ــــــــأن البانوبتيكون، الذي يكون فيه البرج المركزي وإمكانية التفتيش المستمر هو ما يزيح العنف المتقطع للسيادة، يبدو قديما جدا وليس نموذجا حديثا.

 

طريقة العمل في جاهزيات الأمن،إذا، ليست المراقبة شاملة الإراءةpanoptic surveillance. إنها تأخذ خطوة إلى الوراء وتلاحظ طبيعة الأحداث، وليس من أجل الوصول إلى جوهر غير قابل للتغيير، ولكن من أجل أن نسأل ما إذا كانت مفيدة أم لا، وكيف، علاوة على ذلك، يمكن للمرء أن يجد الدعم من الواقع نفسه، مما يجعل من الممكن توجيهها في الإتجاه المناسب. من هذا المنظور،نستطيع أن نقول أن القانون يعمل في الخيال، إنه يتخيل شيئا سلبيا.في حين أنه يتم تطبيق الإنضباط في المجال المكمل للواقع.الأمن، أخيرا، "يحاول العمل مع الواقع، عن طريق جعل مكونات الواقع تعمل ضمن علاقة مع بعضها البعض".

 

هذا ما يقصده المذهب الطبيعي، يقترح فوكو، عندما يقول إن الاقتصاد في الواقع هو فيزياء، وأن السياسة لا تزال تنتمي إلى الطبيعة. ويخلص فوكو بعد ذلك إلى أن هذا هو المبدأ الأساسي من مبادئ ما يمكن أن يصبح الليبرالية، ويسمح بفهم مختلف لدور فكرة الحرية في تطور الرأسمالية.

 

مصححا طروحاته السابقة، التي كانت تشير إلى أن ظهور فكرة الحرية والأيديولوجيات الليبرالية يجب أن تُفهمبالارتباط مع الانتشار الكبير لتقنيات الإنضباط ( كون الفرد الحر نتيجة لعمليات الإنضباط)، يدعي فوكوالآن أن الحرية يجب أن تكون مرافقة للجاهزياتالأمنية،بمعنى أن هذه الجاهزيات لا يمكن أن تصبح ساريةإلا إذا افترضنا أنحرية معينة ؛ حرية التنقل، مستقرة في"الطبيعة السياسية" التي ستنتشر فيها.

 

الليبرالية، يقترح فوكو، أولاً وقبل كل شيء، ليست أيديولوجية بمعنى التمثيل الكاذب، أو المشوه، أو الوهمي للواقع، ولكنها تقنية للسلطة، أو وسيلة للعمل مع الواقع.والليبرالية، من وجهة النظر هذه والتي لا تمنع وجهات أخرى، على الرغم من أنها تدعي ضمنا أنها تسبقها، لا توفر لنا شاشة ضبابية لنظرية و / أو أيديولوجية تحدثخلفها أشياء أخرى وأكثر واقعية (الإجراءات والممارسات والأحداث المادية). بدلا من ذلك، هي ممارسة في حد ذاتها، بل هي وسيلة لجعل بعض الأشياء حقيقية من خلال العمل مع/ وتكثيف، وتهدئة، و إعادة توجيه العمليات الجارية بالفعل في الواقع نفسه.

 

عندما يقترح فوكو أن الليبرالية هي النموذج المثالي للحاكمية من أجل ممارسة السياسات الحيوية، فإنه يزعم أنها تعارض الشُرطية، المتأصلة في مذاهب منطق الدولةRaison d’Etat، وأنها تكتشف فنا جديدا للحد من تدخلات الدولة.في الحكومة الليبرالية فان سلطة الدولة تتوقف عن أن تكون هدفا في حد ذاتها، مما يعني أنها سوف تواجه "منطق الدولة" مع "منطق دولة أصغر".يشير فن الحد الذاتي هذا إلى شكل جديد من العقلانية السياسية، والسؤال الأساسي المستمد منها سيكون عن كيفية تحقيق أقصى قدر من الكفاءة من خلال الحد الأدنى من التدخل.بل هو أيضا تأسيس للحدس في الإقتصاد السياسي الذي يزيح فكرة الحد الخارجي عن تدخل الدولة من خلال القانون أو من خلال مناشدة الحقوق الطبيعية، وبدلا من ذلك فانه ينظر إلى القوانين التي هي أقرب إلى القوانين الطبيعية من المؤسسات الأخلاقية أو القانونية.

 

هذا القيد هو "تقييد بحكم الواقع"، والتعدي عليه لا يعني أن الحكومة أصبحت غير شرعية وأن رعاياها سيتخلصون من واجباتهم،بل أنها حكومة "خرقاء، غير كافية، لا تفعل الشيء الصحيح".

وبالتالي فإن لأشكال الحكم الليبرالية علاقة جديدة بالحقيقة: إن السوق سيكون مكان تأكيد الحقيقة، وهو ما يعني أن النظرية السياسية ستجد نفسها تابعة لهيئة جديدة من المعرفة، وهي "الإقتصاد"؛ المصطلح الذي تحول معناها لآن إلى معنى حديث معترف به. لكن هذا لا يعني أن الاقتصاد هنا سيمر في النهاية من عتبة معيار العلمية، بل أنه سيوهب وظيفة"الحقيقة" ذاتها بعيدا عن التعقيدات الجديدة للسلطة والمعرفة التي تخضع لها السياسة. تحييد فوكو للفرق بين العلم والإيديولوجيا لصالح دراية أكثر حيادا لا يزال فاعلا هنا: "السياسة والإقتصاد"، يقول: "ليست أشياء موجودة، أو أخطاء، أو أوهام، أو ايديولوجيات.هي أمور التي لا وجود لها، ولكنها مدرجة في الواقع وتصنف تحت نظام الحقيقة الذي يحدد الحق والباطل ".

 

يتطلب عمل الليبرالية وجود حريات متباينة متعددة، وأن تنتج وتنظم هذه الحريات، وأن تدير الظروف المطلوبة لأن يكون رعاياها أحرارا، وأن تكون في حالة تأهب كامل لأخطار ومخاطر الحرية. يعرض فوكو بهذه الطريقة (لعبة الحرية والأمن) بوصفها نوعا من آلية التحفيز والمخاطرة.وتعتمد الليبرالية على هذا التداخل، على هذه الدائرة،وتتدخل في إدارتها. بمعنى أن الحكم في ظل الليبرالية هو تحفيز وإدارة الحرية والخطر. السياسات الحيوية هي أحد ترتيبات هذه الدائرة من الحرية و الأمن. يقول فوكو إن شعار الليبرالية هو "أن تعيش في الخطر ". ففي الوقت الذي تهدف فيه الليبرالية إلى إثارة وإنتاج الحرية، تشترط على رعاياها "اختبار وضعهم، وحياتهم، وحاضرهم ومستقبلهم بوصفها تحتمل الخطر". ما هو خطر فعلا أقل أهمية من التحفيز الشامل للشعور بالتعرض للخطر، والخوف من خطر قادم مثل الجريمة والعجز والمرض وفشل البنك. يحرض تحفيز الإحساس بالخطر على تمديد إجراءات المراقبة والتحكم. فآليات الليبرالية، يوضح فوكو، هي ذاتها مولدة لليبرالية(liberogenic). فبدلا من إنتاج الحرية، فإنها تنتج (أو تهدد انتاج) مجالا واسعا مشتتا للسيطرة.

 

أفرغ احتضان الليبرالية للاقتصاد السياسي السيادة القانونية من مضمونها من خلال افتراض حقل من العمليات، وتضاريس من الإجراءات والتفاعلات، ومنظومة من الخيارات والقرارات التبادلية التي تقلص معرفتها السيادة بالضرورة. ويسمح تفريغ السلطة السيادية وكشف العجز الأساسي في السيادة بقرارات مختلفة. الأول: يمكن أن يكون نوعا من تقسيم السيادة بحيث تستبعد السيادة من السوق. أو الثاني: يمكن تحميل السيادة مسئولية الإشراف والتحقق من عمليات السوق. في الوضع الثاني، فإن ممارسات الأنشطة الحكومية المرتبطة بالإشراف سوف تُخضع المنطق السيادي ـلــ "عقلانية علمية مضاربة". ولكن ما يحدث في الواقع، يوضح فوكو، هو السيناريو الثالث، تمديدالحكومة إلىمجال جديد - المجتمع المدني.

 

يوفر المجتمع المدني بوصفه حقلا جديد لممارسة السلطة الحكومية، موقعا لإدارة الاقتصاديين. إنه مسرح المرجعية حيث الأفراد ليسوا قابلين للحكم "governmentable" إما كأصحاب حق أو كفاعلين اقتصاديين ولكن من خلال منظومة جديدة تربط وتجمع بين هذه الاهتمامات القانونية والسوق حيث تجلب عناصر أخرى في العلاقة معهم. تصبح الجوانب القانونية والإقتصادية للفرد في المجتمع المدني"جوانب جزئية" تندمج في منظومة أكبر وأكثر تعقيدا.

وخلاصة القول، إن فوكو، في تناوله للتحول من الاستبداد إلى الليبرالية، يضع الخطوط العريضة لتغير المنطق الحكومي. ففي حين كانت مقاربة السيادة في القرن الثامن عشر تؤكد على التحديات الخارجية لسلطة الدولة (مثل القانون الإلهي أو الطبيعي)، تنشأ الليبرالية من التحديات الداخلية لمنطق كينونة الدولة(ما هو الغرض منالدولة أو دورها؟)

 

ولطرح مثل هذه الأسئلة، تستبطن الليبرالية حقلا جديدا من الحقيقة وفهما جديدا لهذا الموضوع، حقيقة الإقتصاد السياسي وشخص الإنسان التقتصادي. كما أنها تفرغ السلطة والمعرفة اللازمة للحكم من السيادة، وعلاوة على ذلك،تعيد الليبرالية توجيه / وتوزيع هذه القوة والمعرفة إلى المجتمع المدني الذي تشكل من خلال هذا التوجيه و التدوير. وأخيرا ، فقد ولدت السياسات الحيوية على هذا المسرح ومن رحم هذه الإعدادات.

أضف تعليقك