مناديل ورقية

الرابط المختصر

لا أحد يتذكر على وجه التعيين متى بدأ سكان المدينة يلاحظون الرجل، الذي كان يحرص على تقديم منديل من الورق الصحي لكل من يصافحه، فور أن يسحب كفه من يده. ولكن شهرة ذلك الرجل بقيت متوقفة عند هذا الحد لوقت طويل؛ أي مجرد إنسان بسلوك مفاجئ يثير الاستغراب، وربما الدهشة. ولكن جاء وقت وتغير كل ذلك.. لقد وجد فريق من صحافيي المطبوعة الرئيسية في البلاد، الذين أوكلت إليهم مهمة حصر أبرز المعالم ذات القيمة الإنسانية في العاصمة، تمهيداً لتوثيقها، منذ اجتماعه الأول بمواجهة حقيقة أن الرجل الذي يمضي وقته متجولاً في الشوارع الحيوية، يصافح كل من يقابله، ثم يمنحه منديلاً، يبدو جزءاً هاماً من المدينة، وهو علاوة على ذلك ليس مجرد أثر من حجر، بل هو إنسان حي يضاهي بحضوره اليومي وتماسّه مع حياة الناس، أهم المعالم الكبيرة في المدينة. المعضلة التي واجهت الفريق الصحافي، هنا، كانت في أن أحداً منهم لا يعرف الرجل، ومن هو، ومتى بدأ ولماذا يفعل ما يفعل. وهذا قاد إلى إهدار عدة اجتماعات لبحث جدوى التقصي حوله، وهل من الضرورة فعل ذلك أم يجدر الحفاظ ذلك الغموض اللطيف الذي يحيط به. بعد وقت، اقتنع الفريق أن اجتماعاته لن تنتهي وستظل بلا فائدة ما لم تتم معرفة سرّ ذلك الرجل. وتم التوافق على التحري والتقصي حوله، وأنه لدى توافر المعلومات اللازمة يمكن حينها للفريق أن يقرر ما إذا كان يجدر التضحية بذلك الغموض اللطيف، الذي قد يكون جزءاً من سحر ذلك الرجل، أم لا. جاء التحري والتقصي بثمارهما سريعاً؛ فقد اكتشف الفريق الفريق الصحافي حقائق أساسية، منها:

  • أن ذلك الرجل مجرد عامل في دورة المياه العامة.
  • أن مهنته في الأساس، حينما بدأت قبل نحو ثلاثة عقود، كانت تقتضي أن يوزّع في الشوارع القريبة مناديلاً من الورق الصحي تحمل رسماً توضيحياً لموقع دورة المياه العامة، ليكون بوسع كل محتاج للتخفف من أحمال جسده قضاء حاجته في مكان مناسب.
  • أن ظروف تقشف طارئة دفعت إدارة دورة المياه العامة لاحقاً إلى الاكتفاء بتوزيع مناديل ورقية عادية، لا تحمل شيئاً.

على ضوء هذه المعلومات، أنهى الفريق الصحفي اجتماعاته باعتماد قرارين: الأول، أن ذلك الرجل يشكل جزءاً هاماً من المشهد اليومي في المدينة، وأن انخراطه في تقديم خدمة عامة لسكانها، يجعل منه واحداً من أبرز معالمها وآثارها ذات القيمة الإنسانية. الثاني، أن المعلومات التي توفرت حول شخصيته وحقيقة ما يفعل تستحق الإذاعة والنشر. وهكذا كان.. وإلى هنا، لم ينتبه أحد أن الاهتمام البريء بذلك الرجل، الذي بات مشهوراً بـ”رجل دورة المياه العامة”، لفت انتباه السلطات إلى إمكانية استثماره، فأوعزت إلى الإدارات المحلية إسناده وتقديم الدعم الضروري له. الأمر الذي فاقم الاهتمام العام به على نحو أكسبه شهرة نجومية، ثم حوّله إلى قيمة وطنية، ثم رمزاً شعبياً. في البداية، قضت خطة السلطات تحويل “رجل دورة المياه العامة” إلى شخصية مستقلة، مع استمراره في توزيع مناديله الورقية، على أن تطبع عليها عبارات مسلية، تمجد المدينة، وتغازل سكانها. في مرحلة تالية تطور الأمر إلى طباعة شعارات سياسية محددة على تلك المناديل الورقية، رأت السلطات أنه يمكنها الإسهام في تنفيس الاحتقان السياسي الناشئ في البلاد، وتوجيهه إلى أماكن مناسبة. وأدى “رجل دورة المياه العامة” مهمته بنجاح منقطع النظير؛ لذا لم يكن من الغريب أن تتعدد أدواره، وتتنوع مهماته.   ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك