مسألة أن نكون
“أن تكون متشدداً في موقفك حدّ التطرف، فهذا مؤشرٌ على أنكَ بلغتَ الموقف الضد المحسوم!”، و”أقصى اليسار يساوي حضن اليمين/ يسار اليسار يمين!”، و”احذَرْ أصحاب الصوت المرتفع لأنهم يمارسون ضرباً من المزايدات الوطنية، وصيغةً من الابتزازات الشخصية، ولن تُدرك أنّ هذا أحد وجوه الخديعة إلّا متأخراً!”
هذه بعض الخلاصات التي خرجتُ بها من “تجربتي” السياسيّة، في إطارها الحزبيّ، داخل التنظيم الذي انتميتُ إليه قبل ثلاثة عقود، أو عند سواي ممن انتموا لتنظيمات أخرى، قريبة في توجهها أو بعيدة. خلاصات لم أكن الوحيد، أو الأوّل، الذي رآها متجسدةً في كثير من الحالات ولدى نسبة ليست قليلة من الأفراد “المنتمين” لجهة هنا.. أو هناك.. أو هنالك! قلتُ: لم أكن الوحيد أو الأوّل لأتابع أنّ تمثيلات تلك الخلاصات ما زالت سارية حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن “هُوية” التنظيمات “الجديدة” التي توالدت كالفِطْر البريّ – أو بالأحرى كالشوك السامّ المغطّي للأرض العطشى. تنظيمات نعاينُ تطرفها الأقصى في بحيرات الدم الجماعي، وجحيم حرائق ودمار الأحياء والبلدات والمدن والأوطان، والتعصُّب الجازّ لأعناق كل مَن لا “ينتمي” أو “يَدين” أو “ينصاع” للبُعد الواحد في كينونة شاءت إلغاء سواها بإبادتها!
يحيلنا مضمون منطق/ لامنطق “نحنُ أو الموت” إلى دائرة العَدَم فوراً. فبدلاً من ترديد المقولة الشكسبيرية الشهيرة: “أن نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة”، ترانا نعاينُ أفعالاً معممةً عمد أصحابُها إلى تحريف المقولة لتتحول إلى: “أن نكون أسياد مصائركم، أو لا تكونوا”! فنحن، عندما نعمل على تأويل الجملة الشكسبيريّة، نجدنا في مجال السعيوالنضال من أجل البقاء على المستوى الإنساني دون أن نُهان أو نَفنى– أفراداً وشعوباً ودولاً. لكننا حين نقرأ التحريف الوارد قبل سطر، فلنا أن نَفزع من هول منطوقها. منطوق يُعلي الإفناءَ رايةً، وغايةً، وسبيلاً، ومبدأ وجود هو العَدَمُ بعينه.
لا فرق في هذا المنطوق، على صعيد ممارسات كافة التنظيمات “الآخذة على عاتقها” إسقاط الأنظمة القامعة، الدكتاتورية، المتخاذلة، الفاسدة، الكافرة، الفاشلة من جهة، وتلك الأنظمة من جهة أخرى. فإذا كانت الأنظمة قد سادت وتسلطت وبطشت وفي خلفيّة المشهد الخاصّ بها يقبع شعارها “نحن أو الموت”، فإنّ ما نعايشه طوال أيام المأساة السورية تحديداً، وغالبية المآسي العربية عموماً– ما يُطلق عليه “الربيع العربي”، يدلل على أنّ ما يحاول الإعلام المرتزق تصويره بأن ثمّة “صراع بين جهتين” إنما هو إخفاءٌ مشبوهلـ”صراع بين قاتلين في جهة واحدة”.
هما قاتلان يتقاتلان على “غنيمة” لن تكون سوى الوطن المفتت، والمواطن الهالك أو المهاجر أو اللاجئ أو الفارّ أو المغلوب على أمره، والهُويّة اللاحمة للتعدد والتنوّع وقد تم تمزيقها وجَرْحِها فذَبْحِها من ثَم، والروح المندحرة المهزومة تحت أفق يسوده السخام وفضاء تحتله الغربان.
في مسألة “أن نكون أو لا نكون” ثمّة بُعْد وجوديّ صميم يهتف للحياة وينشدها وينشد لها، بمعنى أنها الغاية والسبيل لبلوغ الغاية. أما ما نشهده الآن؛ فلا يعدو أن يكون مجرد إمحاء للحياة بأفعال القتل لكائنات إنسانيّة ليست منخرطة في “مسألة القاتلين المتقاتلين”. لكائنات بَشَريّة جعل القاتلان المتقاتلان منها “دروعاً بَشَريّة” وأسمياها “الشعب”! قاتلان يتراشقان بالموت، غير أنّ هذا الموت لا يصيب، إنْ أصاب (وإنه ليس بطائش أبداً) إلّا أولئك الهاتفين للحياة!
أيّة مفارقة مريرة هذه! أيّ ربيع أحمر هذا! أيّ ذهاب نحو أقصى التطرف في شعارات فوق رايات لا تؤدي، في حالات ترجمتها أفعالاً على الأرض، إلّا إلى مزيد من الولوغ في الدم، واستباحة الأوطان وتمزيقها، والقبض على المستقبل ورهنه لبوابات الجحيم!
قلتُ في استهلالي هذه الكتابة، إنّ “أقصى اليسار يساوي حضن اليمين/ يسار اليسار يمين”؛ بما يشير إلى الانتهازيّة المتوارثة القابعة في ذاكرة الخديعة، إنْ يساراً ماركسياً / قومياً/ شعبياً/ شعبويّاً كانت في ماضٍ قريب. أو تديناً شكلياً/كاذباً/ منافقاً/ بلاغياً/ تكفيرياً/ خاوياً يحضر اليوم ليشهد علينا بالإدانات ولا يشهد لنا أبداً؟
ما هذا “الفيروس” الناغل في تاريخ لا يُدْرَس!
ما هذا القاتل المتناسخ في أقنعة لا تُخْفَى!
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.