لما تخبي في قلبك دينك
“لما كلمة حق تدينك – تْوقع ما في حد يعينك – لما تخبي في قلبك دينك؛ حط إحباطك فوق إحباطي”. هذه الكلمات من إغنية “طاطي” من مسرحية “عربي وشوية كرامة” تعبّر بشكل كبير عن واقع حال مقلوب يسود منذ أن تم للتيارات الدينية المتطرفة التمكين وباتت تؤثر في القواعد الشعبية تأثير السحر، إذ كم من مفكر حر ومبدع وفيلسوف وكاتب “يخبي في قلبه دينه” درءاً للوقوع تحت شأفة الاستئصال والإقصاء التي استحقها التيار الديني السائد في دول العالم العربي والإسلامي عن جدارة ودون منازع؟
“لما تخبي في قلبك دينك”، من سخرية الأقدار أن يكون إخفاء المعتقد خشية البطش والقهر من المخالف هو أحد أهم مناطات التسويق والترويج التاريخية للدين، حيث لا تكاد تنتهي القصص والحكايات عن معتنقي الدين الأوائل الذين كانوا يخفون ويتخفون تجنباً لما قد يلحقه بهم أصحاب المعتقد السائد أو “الكفار” من أذى، مدهش كيف لا يستشعر هؤلاء المروجون لهذه القصص الخجل والعار وهم يمارسون الفعل المشين ذاته، إذ يخفي كل مخالف لهم دينه ومعتقده في قلبه خشية الإقصاء بل خشية الموت برصاصة أو سكين تستلها يد أحد دهماء القوم ممن تترك لهم عادةً المهام القذرة الملطخة بدماء المخالفين.
“لما تخبي في قلبك دينك”، لقد كان نشر الراحل نصر حامد أبو زيد لنتائج بحثه حول النص الديني؛ أثر واضح في تأكيد غلبة تيار غوغائي ثيوقراطي قاده مجموعة من أساتذة الجاماعات والمحامين الذين في حقيقتهم لا يختلفون أبداً عن قاتل المفكر الكبير فرج فودة الذي حينما سأله النائب العام: “هل قرأت كتبه؟” أجاب (المنتصر لدين الله): “أنا معرفش أقرأ ولا أكتب يا بيه”! نجح خلفاء الله في أرضه في منتصف التسعينيات في استصدار حكم قضائي أصدرته محكمة رضع قضاتها التطرف والعنف وورثوه كابراً عن كابر؛ يقضي بالتفريق بين أبو زيد وزوجته بحجة أنه قد “ارتد عن الإسلام”! يا سلام! حقاً يا سلام! كيف تحرك ثلة من قادة الديماغوغية المقيتة دمى سخرت نفسها لتنفيذ ما يلقى عليها دون تفكر أو تدبر، فيكفي أن ينعق الداعي “بأن قد كفر فلان وارتد” ليتسابق أفراد القطيع لينهشوا سمعته وشخصيته في اغتيال اجتماعي جبان ثم ينقضوا عليه لينهوا حياته إذا استطاعوا لذلك سبيلاً.
“لما تخبي في قلبك دينك”، يقولون لك إن تراثهم يحض على إعمال العقل والتفكير والتحليل، فإذا ما قادك عقلك إلى غير الطريق التي رسموها له وهو غير مؤدٍ إلى مكان في نهايته، “Dead-end”؛ فإنك قد انحرفت عن جادة الصواب، فإعمال العقل مشروط بأن يصل إلى النتائج المستخلصة مسبقاً ولا شيء غيرها! تماماً مثل القائد الفرنسي الذي قال لجنوده: “إن لكم كامل الحرية في التصويت لمن تشاؤون، لكن من لا يصوت للقائد الأعلى فسوف يرمى بالرصاص، عاشت الحرية يا رفاق”.
“لما تخبي في قلبك دينك”، تعجب وعجب قولهم، “إعمال العقل مما يميزنا”، وهم أصحاب مأثورات “كثرة السؤال من الشيطان… إذا بدأت تفكر في غير ما هو مقرر لك فعليك بالبصق على يسارك 3 مرات… النقل مغلب على العقل…”، فأي عقل هذا الذي تتحدثون عنه؟ وأنى للعقل أن يعمل إذا كان السؤال بداءةً مكروه وغير مستحب؟ وإذا كان ما تحملونه في جعبتكم الفكرية “لا يأتيه الباطل ولا يناقض الفطرة…” فما الضير ولماذا الخوف من إخضاعه للتحليل والمنطق والتجريب؟
“لما تخبي في قلبك دينك”، ليس صدفةً أن كانت الكنيسة في العصور الوسطى ترى في العلماء والفلاسفة والمفكرين إعداءً لها لما كانوا يشكلونه من خطر حقيقي على تعاليمها من خلال التفكير والتأصيل والتحليل والتجريب، الأمر الذي اضطر الكثير من هؤلاء العلماء والمفكرون والفلاسفة إلى أن “يخبون في قلبهم دينهم” أو أنهم دفعوا ثمن أفكارهم وخلاصاتها حياتهم أو حريتهم في أحسن الأحوال.
“لما تخبي في قلبك دينك”، لا يبدو الاختيار بين الإفصاح والإخفاء لما يخالف التيار الثيوقراطي المتطرف عندنا؛ أمراً متاحاً على إطلاقه، إذ أنه وفي حالة المخالفة يغدو الاختيار بين الحياة والموت، وبهذا نكون قد تفوقنا على السلطة الكنسية في عصورها الوسطى وسجلنا سبقاً استبدادياً دموياً يجاهر به جزاروا الفكر وإرهابيوه ويتفاخرون دون حياء أو رادع من دولة أو حتى قانون.
“لما تخبي في قلبك دينك”، إنّ أمةً تروم التقدم والريادة وفي الوقت نفسه تحدد للفكر والعقل مساحات حركته وتحركه؛ لهي أمة تلهو وتعبث وصدق فيها قول شاعرها أبو تمام الذي قصد مديحاً فوصف وصفاً ذميماً –من وجهة نظري- لكنه دقيق حيث يقول: “السيف أصدق إنباءً من الكتبِ – في حده الحد بين الجد واللعبِ”، فهذا وقت مناط الحكم فيه ليس للعقل ولا للعلم ولا للكتب… وإنما للسيف الذي هو دائماً مشهر في وجه كل باحث ومفكر بل وحتى متسائل وفي حده التمييز بين “الجد واللعب… الخبيث والطيب… المؤمن والكافر… من يستحق الحياة ومن يجب أن يموت….”.
“لما تخبي في قلبك دينك”، لم يفت الأوان، فبإمكان المسؤولين عن التعليم عندنا إعادة بناء مناهج التدريس ومنهجية تعليمها للأطفال، وتأهيل كوادر تؤمن بأهمية الفكر والتفكير وسؤال والتحليل وذلك إذا ما أردنا أن تكون الأجيال القادمة أقل تطرفاً وعنفاً وأكثر انفتاحاً وتنويراً، أما جيلنا فقد فوضنا أمرنا فيه لله، ولتحرص يا صديقي المخالف على أن “تخبي في قلبك دينك”.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.