النقد عبر الفنّ المثقف

الرابط المختصر

يحدث أن أتساءل، بينما أشاهد حلقةً أو اثنتين من مسلسل ما، أو فيلماً من تلك الأفلام الرائجة ذات الأجزاء والتكاليف الإنتاجية الهائلة، عن الخلفية الفكريَّة التي يتحلّى بها مخرج العمل أو كاتب السيناريو. ما المبدأ، غير التجاريّ بالطبع، غير الإبهاريّ في تصوير مشاهده، الذي أدّى بكُّلٍ منهما لأن ينخرطَا في إنتاج العمل. وهل هنالك “رسالة” محددة أرادا إيصالها للجمهور، أو “فكرة” ألَحَّت عليهما وجدا ضرورةً في طرحها في هذا الوقت بالذات كونها تضيف للوعي العام شرارةً توقده، وربما تعمل على الارتقاء به.

إنها قناعتي بلزومية امتزاج الفنون كافةً بالثقافة الأدبية والفكر السياسي والاجتماعي. قناعتي الكامنة خلف تساؤلي الأوّل. هو امتزاج بديهي، في رأيي، لا بُدَّ من توفره ليستحق العمل الفنيّ (أكان مَرئيّاً أو مسموعاً) اسمه بتكامل وتوازن. فمثلما يحتاج الجانب الفني إيفاءً بمتطلبات جمالياته وتطوراتها التقنية السريعة، كذلك يتوجب للمادة قيد المعالجة الجمالية (الموضوع/ القصة) أن تتحلّى براهنية واضحة وبتعدد الأبعاد فيها ومن خلالها.

أي: ليس هنالك منعَمَل فني مُقْنِع يخلو من عُمْقٍ بدرجة ما، يثير في متلقيه سؤالاً أو مجموعة أسئلة، وإلّا ما عادَ له ما يبرره، اللهم سوى هدف التسلية، وهذا لوحده لا يشكِّلُ ركيزةً ثابتة يُعتدُّ بها ليصبح علامةً في المستقبل.

ما حثّني على طرح تساؤلي الآن بضعةُ صفحات قرأتها للمخرج الألماني ميكايل هونيكه، شرح فيها رؤيته للمحتوى الفكري المتأمل في فيلم “الشريط الأبيض”. قال هونيكه بأنّ فيلمه هذا استند إلى تحليله لظاهرة العنف، الظاهر والخفي، المتولد نتيجة تحويل المُثُل السامية من كونها مبادئ يُهتدى بروحها، إلى أيديولوجيات تؤطِّر “المؤمنين” بها لتعزلهم في داخلها، وتخلق مسافةً من العداء والتوتر تبعدهم عن غيرهم. ولقد كان هونيكه في خلاصته هذه قد تمَعَّن عميقاً في أساليب التربية الصارمة التي مورست سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية في مدارس ألمانيا، ضمن المفاهيم البروتستانتية المتزمتة، حيث كان للتشدد في توجيه الأطفال و”قَوْلَبَتِهم” أن جعل منهم مجموعة عُنف، ووَلَّدَ لديهم نزوعاً نحو الشرّ كعنصرٍ ثاوٍ ينتظر ما/ مَن يوقظه.

في تحليله، يفيد هونيكه بأنَّ الإيمان الديني يمنح المؤمنَ معنىً. معنىً خَيِراً. لكن هذا الدين نفسه (المقصود أي دين)، وحين يُستَغَل بصيغة أيدولوجيا ناشطة تستقطب جماعات المؤمنين باتجاه هدف سياسيّ ما، يحدث الفصل بين تلك الجماعات وبين “أغيارها”؛ ثم سرعان ما تنشب النزاعات المسلحة باسمه، والحروب تحت راياته، وتُسال الدماء من أجل نُصرته.

وهكذا ينقلبُ الإيمانُ هنا إلى تكفير فعداء للآخر هناك، والمُثُل السامية كمبدأ أوّل للخير إلى سببٍ تالٍ للشرور.

يخالُ لقارئ تصريحات هذا المخرج السينمائي أنه حيال مختصّ بالتاريخ الاجتماعي لألمانيا، وباحث مدقق لأساليب وطُرُق التدريس لحقبةٍ محددة كانت، في حقيقتها وجوهرها، توجيهات عميقة التأثير على مسلكيات شعب وسياسات حكوماته.

واضحٌ تماماً أنّ هانيكه إنما مارسَ، داخل عمله السينمائي الفني هذا، نقداً لتلك الحقبة من تاريخ بلده من زاوية كيفية التعليم والتربية، والتوجيه بالتالي. كما أوْضَحَ بالصورة المرئية وفق أحدث التقنيات وجهة نظره، ليس بصفته أحد أهم المخرجين الأوروبيين اليوم؛ بل بكونه فنّانا مثقفاً يملك رؤيةً للماضي خاصة به. ومَن يمتلك رؤية الماضي يحوز، بَداهةً، اجتهاداً مثقفاً للحاضر – امتثالاً لمنطق أنَّ حاضرنا إنما هو طفلُ ماضينا.

فماذا عن مستقبلنا؟

بدأتُ بمساءلة الفن والثقافة ومَن ينخرطون في إنتاجهما، وأجريتُ مقاربةً لنموذج من هناك: من أوروبا: من الضفة الأخرى لعالمنا العربي، وكيف تكون العلاقة بينهما لدى أحد فنانيها. السياسة حضَرَت، وكذلك التاريخ، كما تم تصوير المجتمع بالأبيض والأسود، وفي القلب من ذلك كلّه تجلّى الدين في وجهٍ قامِع متعصِّب حين أراده مستغلوه أن يتحول إلى أيدولوجيا.

أترانا، نحن العرب هنا والآن، غرباء عَمّا قام بشرحه ألمانيُّ هناك؟

هي بلاده، ولم يكن أنْ شعرَ بالخَجَل من مراجعة تاريخها، وممارسة نقده وتشريحه الشجاعين له، ليُصار إلى فَهمه.

فهل نفعل؟

هل نفعل، ونُعمِلُ نقدنا الشجاع لحاضرنا بوصفه وليد ماضينا، فنتعرَّف على وجه مستقبلنا؟

        إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية *