القبولُ بالمغايرة قبولٌ بالديمقراطيّة

الرابط المختصر

 

ثمة ما يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً يُجمع عليه كتّاب الأدب، يتمثّل في أنّ تعدديّة الرؤى الفنيّة، وتنوّع الأساليب الكتابيّة، إنما يشير على عافية الجسد الثقافي (خلافاً لاعتقاد البعض القليل)، كما أنها تُفصح عن ثراء الذات المبدعة. نعم؛ الذات المبدعة المندغمة والمنخرطة (وأشدد على هذا) بتفاصيل الواقع الحياتي، بمفرداته اليوميّة، التي تشهد بدورها على التعدد والاختلاف.

 

لستُ أوّل مَن يكتب هذا بكل تأكيد؛ إذ أعتبر نفسي أحد المقتنعين بما سلف والداعين إلى ترسيخها كمفهوم، وكواحدة من المبادئ الكفيلة بتصويبنا عندما يأخذنا الهوى بعيداً. غير أنّ كثيراً من المسلكيات الحياتيّة على صعيد الاجتماع، والمواقف المنطوقة والمكتوبة هنا وهناك، لدى شريحة من “مثقفينا”، نراها تقف كالسدّ لتصّدَ سريان روح هذا الثراء إذا ما كان مغايراً لنموذجهم الواحد.. والوحيد .. والأحد! كما نراهم يُشهرون سيوف التعريض بما هو مغاير ومختلف، يطعنون بها “الحالات الأخرى” بغية تنحيتها عن ساحة الفعل والوجود، وإقصائها خارج أرض الإبداع!

 

يستدعي الاختلاف، كما أفهمه وأعيه، الجدلَ والتفكير بالضرورة لا لينتهي، بحسب الأعراف الرديئة، للوصول إلى النفي المصاحب، عادةً، لحالات التناحر. وهذا في ذاته يتنافى مع الثقافة كجوهرٍ في أصل الأشياء.. وكفعلٍ في سياق الكتابة والإنجاز. فالاختلاف (تراني أكرر المكرر) يؤدي لمزيدٍ من فتح الآفاق المكتشفة إثر إنسدادٍ سابق تساعد، بدورها، على تعميق كل نموذج إبداعيّ يصب في نهر الحياة نفسها ويُغني معانيها. في الوقت الذي يؤشر التناحرُ على سِمات الطيش، والنزق، والجهالة، والفجاجة في المفاهيم، والقصور في الرؤيا. وهذه كلّها تتناقض حتماً مع صِفة الرَوَيّة لدي المثقف، والتملّي، والتأمل الهادئ للذات وللآخرين على السواء.

 

نحن لا نكتشف أنفسنا بمعزلٍ عن وجود الآخر ـ الغير ـ المغاير. فبمعاينته إنما نعايننا أيضاً، ونتحقق مما نحن عليه. وكذلك، فإنَّ هذه المغايرة، كواقعٍ صلب وحقيقة لا يمكن إنكارها، ليست شذوذاً يكسرُ حلقةَ الخَلْق والخليقة كأنما هي طائرٌ تاهَ بعيداً عن سربه – إذ السربُ في منطق الإبداع لا يعني اللون الواحد أبداً. المغايرة، إضافةً لهذا كلّه، حتميّة ملازمة لحتميّة الكينونة لأيّ موجود يتحسسُ كيانه ويستشعر الحيّز المكاني والزماني حيث يقيم، ويتحرك، وينمو، ويتشاكل متآلفاً ومتبايناً في الوقت نفسه. من غير وجود الآخر لا وجود لنا، والعكس صحيح. نحن مرايا بعضنا. نحن وَهَجُ وعي الآخر بنا وشهادته على كينونتنا.

إذن: نحن ننفي أنفسنا في اللحظة التي ننفي فيها مغايرنا.

 

هكذا، واستناداً إلى هذا الإدراك الكُلّيّ القادر على استيعاب المفارق لنا، ضمن نسيج ثقافتنا الواسعة، نستطيع المضي قدماً في تعميق وحدة ثقافية تشدنا إلى بعضنا بعضاً. كما نستطيع، في الوقت نفسه، أن ننهض بمجتمعنا على أُسس تعي التسامح (بمعنى القبول من موقع النِد، لا القوة أو السطوة) وبوصفه ضرورةَ تعايش واختياراً يعتمد الحريةَ أسلوبَ حياة، وليس تنازلاً أو مِنَّة.

 

إنّ سَحْب مقولة “الوحدة في التنوّع” و”الثراء في التعدد” على كُليّة واقعنا الاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى واقعنا الثقافي الذي بدأنا به، يعني أننا دخلنا، حقاً، مساحةَ الديمقراطية هائلة الاتساع. المساحة الرافضة والطاردة لفكرة أن تتحوّل إلى مجرد ساحة يصول فيها صاحب الأكثريّة مثيراً العجاج والغبار، ظاناً أنه بذلك إنما يحجب ويخفي الآخر. أو يتبخترُ فيها واهماً بأنّ حريته كصاحب أكثريّة (هي مؤقتة وليست أبديّة مؤبدة) تبرر له سلب حريّة الآخر صاحب الأقليّة (هي مؤقتة أيضاً وليست أبديّة مؤبدة.)

 

فالديمقراطية لا تعني منح الحق لصاحب الأكثريّة بمسخ الآخر ونسخه ليصبح على غراره، أو ليكرره كنموذج أو صَنَم، خاصةً وأننا نواجه تحدياً لكياننا بكليّة مكوناته وعناصره: تحدياً حضارياً ما يزال هاجماً مستهدفاً إيّانا جميعاً (أكثريّة وأقليّة) لا يقيمُ فرقاً تفاضلياً للتعددية الكائنة في جسد أمتنا: تحدياً من عدوٍ يتهددنا بكيانه الكُليّ الشامل، بصرف النظر عن تعدديته هو. عدو يعي ويدرك أنّ أساس هجومه يقوم على قاعدة نفينا ككيانٍ وأُمة، ليحلَ بكيانه هو وهو وحده!

 

ثمة تصادم تاريخي/ حضاري يتجلّى في كلمة “إحلال” متجاوزاً، ومنذ زمن، تقليديّة كلمة “إحتلال” ومفهومها العتيق. وعدوٌ كهذا لا يفعل ذلك وأكثر إلاّ لكي يحل إشكاليّة وجوده المناقض لمنطق التاريخ بنفي وجودنا ليصار، في ما بعد، إلى إحلال نفسه بالمقابل! وهنا تحديداً تكمن المفارقة التي تستدعي التناحر.

 

نعم. تستدعي المغايرة، الكائنة في صلب صراعنا مع المشروع الصهيوني، التناحرَ وسيلةً للحسم وحيدة. تناحر لم نطلبه نحن بقدر ما جلبته عناصر الصراع نفسها. وبالقدر الذي زجّت فيه الصهيونيّة، وحلفاؤها في المصلحة الواحدة، المنطقةَ بأكملها من أجل تنفيذ مشروع المحو والإحلال.

 

هذا ما أراه مفصلاً أساسياً في آليّة الصراع الوجودي، والتحدي المصيري المفروض علينا. وقد يتساءل قارئ هذا المقال: كيف بدأتَ بالثقافة والأدب وانتهيتَ إلى هنا، ولماذا؟

 

وإجابتي: المسألة برمتها غير قابلة للتجزئة. والمسألة ببساطة الأشياء الأولى، أيضاً، توجب الديمقراطيّة كمفهوم متكامل وكوسيلة تعامُل ثقافية عابرة للمثقفين أولاً، تترسخ فيهم وفي مسلكياتهم، ثم تنسحبُ على عناصر حياتنا كافة. ولأنّ على المثقفين أن يصيغوا هذا النموذج الناقص في حياتهم اليومية، حتّى الآن، وأن يسحبوه معهم كرديف لهم ولـ”معناهم” أينما تواجدوا. وهذا لا يستكمل جوهره الديموقراطي سوى بملاحظة الفروق والتباين فيما بينهم والتي، رغماً عنها، وبالضد من منطقها الساذج الدال على الافتراق، إنما تعزز حالة التوافق على مواجهة تحدي التناحر.. والمحو.. والإحلال. مواجهة هذا التحدي الثلاثي فينا أولاً!

 

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.