الجنّة، وما أدراك ما الجنّة!

الرابط المختصر

من المتداول عن خورخي لويس بورخيس أنَّ الجنّة، كما أحبّ أن يتخيلها، هي مكتبة كونية. وإنه لأمرٌ يمكن لنا فهمه بإعادته إلى سببين. الأول، أنّ هذا الكاتب الأرجنتيني الكبير كان، ومنذ صِباه المبكّر، قارئاً نهماً للكتب وبلغاتٍ متعددة عدا لغته الإسبانية الأُم– ناهيك عن أنه عمل في مكتبة بوينس آيرس سنيناً إلى أن أصبح مديراً عاماً لها. غير أنّ المفارقة اللافتة، في ما يتعلق بموضوعنا الآن، تكمن في اكتمال عَمْاه وقت تسلمه هذا الموقع! أما السبب الثاني، فإنّ فقده المتدرج لبصره أوصله إلى استدراج المنظورات المتحصلة لديه، وتكثيفها في صورة رفوف بلا نهاية، مكتظة بكتب بلا نهاية. كتب ناطقة بلغات شعوب، تروي تاريخ أُمم، وتحكي قصة الإنسان الكاتب الذي يعيد مقولات أسلافه بوعيٍ منه، أو بغفلة جاهلة لصنائعه!

العالم في “رؤية” بورخيس كلمات وكلمات في كتب وكتب. العالم في تقييمه كتب انتقاها من بين مئات ومئات، أحاطها بالإجلال جاعلاً منها منارات أضاءت له معنى الحياة كونها (الكتب نفسها) هي الحياة والمعنى. ولا غرابة، والحالة هذه، أن تتمدد”رؤية/ خُلاصة” هذا الرجل لتبلغ الجنّة مالئة لها بالكتب: حياة، ومعنى.

هذا اجتهادي وتلك قراءتي لبورخيس في كيفية إقامته للعلاقة الوثيقة بين المكتبة والجنّة، ما يحيلني إلى التتابع التالي: الجنّة تساوي الكتاب، والكتاب يساوي المعرفة العاقلة، والمعرفة العاقلة تحدد قيمة الإنسان وسموه بإحاطته بها – نقصاً أبدياً أو امتلاءً نسبياً.

وما دمنا بصدد بورخيس وعلاقته الخاصة الحياتية الحميمة بالكتب، فثمة حكاية طريفة ذات دلالة، أوردها ألبيرتو مانغويل حدثت حين كان شاباً يقرأ لبورخيس الأعمى اختيارته اليومية. أصدرت دار نشر إيطالية طبعة فاخرة من قصة “المؤتمر”، وكانت – بحسب وصف مانغويل: “كان كتاباً ضخماً، تمّ تجليده وتخصيص علبة له من الحرير الأسود مع صفّ وطباعة بأوراق الذهب على ورق فابريانو الأزرق، وكلّ رسم عولج يدوياً (كانت القصة مرفقة برسوم تأملية) ورُقِّمَت كلّ نسخة برقم متسلسل.” ثم يستكمل: “طلب مني بورخيس أن أصف الكتاب. أصغى بانتباه ومن ثم صرخ بقوة: لكن هذا ليس كتاباً، إنه علبة شوكولا! وبادر إلى أن جعل منه هدية لساعي البريد المرتبك!”

إضافة إلى هذا “الدرس” في رفض بورخيس للمبالغة والتكلّف في التعامل الشكلي مع الكتب – حتّى وإنْ كان كتاباً له؛ فإنَّ جانباً شخصياً أثارني في حكاية ألبيرتو مانغويل هذه. الشوكولا! أعترف أني، لفرط محبتي للحلويات، وللشوكولا خصوصاً، كنت أُضْمِرُ صورةً للجنّة مستقاة من طبيعة ملذات القراءة والكتابة، تتمثّل فيكونها تقاربُ الشوكولا حلاوةً! أقول هذا من غير تحَرُّج؛ إذ صادفتُ كثيراً من الناس يعشقون الشوكولا إلى درجة وصفهم لها بالجنّة!

بورخيس يرى الجنّة مكتبة كونية هائلة، بلغات شعوب الأرض، تحكي قصة الإنسان عبر العصور. أي أنّ المعرفة العاقلة كانت سبيله في حياته، والمعرفة العاقلة طموحه لأن تكون ركنه الحميم في جنّة ما بعد مماته. وبذلك، يصير لي الاستنتاج بأن الحياة لديه، وما بعد الحياة، تُختَزل كتجريد وتأملات خالصة.

وأنا أرى الجنّة عالماً من الشوكولا أعيش فيه حلاوة الفضول المعرفي في كلّ كتاب أقرأ صفحاته بمتعة، وفي كلّ صفحة أكتبها بتلذذ، لتصبحَ ذات يومٍ كتاباً أسكب فيه معناي الذي أشكّله بوعيي وتعقلي.

لهذا أراني أتساءل عن صورة الجنّة لدى سائر البشر، وإذا ما كانت توكيداً للمُتَع التي عاشوها في حياتهم واستمرارها بعد موتهم؟ أم هي، ببساطة، كلّ رجاء حُرموا من تحققه “هنا”، ويأملون في أن يكون بانتظارهم “هناك”.. حيث الاكتشاف!

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.