التعليم الخاص: طبقية تهدّد أمن المجتمع
في عام 1980، ألَّف الفرنسي، بيير بورديو، وهو من علماء السسيولوجيا، كتابًا بعنوان “إعادة الإنتاج، في سبيل نظرية عامة في نسق التعليم”، تحدث فيه عن دور المدرسة في إعادة إنتاج الطبقية الاجتماعية، حيث يرى أن النظام التعليمي السائد في بلده آنذاك، بمثابة آلة لتكريس الهوة بين الفقراء والأغنياء. وأحدث طرح بورديو أثراً عميقاً في النظام التعليمي الفرنسي فصارت فرنسا تحظر المدارس الخاصة، وتعتمد المدارس الحكومية لكل أبنائها، بما فيهم أبناء الأغنياء والوزراء، حرصا على تكافؤ الفرص.
إننا في الأردن نعيش أزمة تعليم تتجلى في كثير من المظاهر، ومنها أن التعليم أصبح أحد وسائل زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فهناك مدارس حكومية متهالكة ضعيفة القدرات، ومثلها مدارس خاصة بائسة أيضا، وهناك مدارس لأبناء النخب من المسؤولين الكبار والأغنياء، ويتسع الفرق بشكل واضح بين هذه المدارس وغيرها، إذ يتلقى الطلاب تعليما عالي الجودة يكسبهم مهارات تفكير ومعرفة لغات أجنبية وثقافة خاصة، لا ترتبط عادة بثقافة البلد وبالمجتمع، مقابل طلاب لا يجدون معلمين ولا بيئة مدرسية ولا يكتسبون أي مهارات على مستوى المعرفة واللغة.
لم تعد فكرة اتساع الفجوة مسألة بسيطة بل ربما ستصبح ظاهرة مقلقة خلال عقد من الزمن، ولا أحد يتنبه لما قد تحدثه هذه المشكلة على مستوى الأمن الاجتماعي، بسبب غياب تكافؤ الفرص في الحصول على العمل، إذ سيحصل الطلاب الذين حصلوا على تعليم جيد على فرص عمل أعلى راتبا ورتبة، وسيكون باستطاعتهم تحصيل مداخيل أعلى من غيرهم، وذلك ناتج عن عدم التكافؤ في الحصول على التعليم الجيد، بخاصة في المستوى الابتدائي والثانوي، وسوف يؤدي إلى ما يسمى “معاودة الإنتاج”، بحسب بيير بورديو، وبذلك تتحول المدرسة – كما يقول – إلى وسيلة لتكريس النظام الطبقي الذي يحكم المجتمع.
وبحصول أبناء الأغنياء على تعليم جيد، ثم عمل جيد سيؤدي ذلك إلى تشكيل طبقة تتوارث التعليم والمناصب أيضا، لأن تحسين التعليم يتطلب مزيدًا من المال، ولذلك فإن النخب الأكثر امتلاكًا للموارد وحدها القادرة على إرسال أبنائها للمدارس الخاصة الراقية داخل البلد وخارجه، ومن ثم يصبح الأصل الاجتماعي هو الذي يحدد نوع المدرسة، ونوع العمل، وتغيب العدالة في تكافؤ التعليم وتكافؤ الفرص في العمل.
يبدو أن الدولة قد تخلت عن دورها في التعليم بعد ملاحظة أن المتعلمين والمثقفين هم الأكثر معارضة للنظام السياسي، حيث نعلم أن التعليم في بلادنا موجه نحو تخريج جيل خادم ومؤيد للنظام السياسي، وأن أي خروج عن ذلك يعد خسارة لهذا النظام، ولو عدنا للوراء لوجدنا أن انتشار التعليم الخاص قد بدأ من نهاية الثمانينيات، وهي مرحلة ما تسمى “الديموقراطية” في الأردن، وقبلها كان المعارضون هم طلاب الجامعات والمتخرجون منها، وهم أنفسهم طلاب المدارس، وبالتحديد الحاصلون على مهارات جيدة أهّلتهم لدخول الجامعة. ولأن التعليم أصبح عبئاً على النظام فكان لا بد من تفكيكه، من خلال إهمال المدارس الحكومية، والسماح بفتح مدارس خاصة، ثم جامعات خاصة، وكلها حولت التعليم إلى استثمار خالص سعياً لها لزيادة الأرباح وتعظيمها.
لقد فشلت المدارس الحكومية في احتواء أعداد كبيرة من الطلاب وتوفير تعليم مناسب ومتكافئ لهم، إذ تشير إحصائيات وزارة التربية والتعليم أن حوالي نصف مليون طالب الآن ملتحقون بمدارس خاصة، لأن أولياء الأمور أصبح لديهم مشكلة في إرسال أبنائهم لهذه المدارس، لأنها لا توفر أي من أساسيات عملية التعليم.
وترى منظمة اليونسكو أن غياب التكنولوجيا الواضح في كثير من المدارس الحكومية جعل التعليم مجرد أداة للتلقين، وغياب التواصل بين المعلم والتلميذ شكل فجوة عميقة في محاولة أي من الطرفين استيعاب وفهم الآخر، وهناك فقدان للأمان، فطبقاً لكثير من الاستفتاءات التي نشرتها اليونيسيف مؤخراً عن مدى شعور طلاب الدول النامية والعربية بخاصة بالأمان داخل المدارس، كانت النتائج صادمة، فمعظم التلاميذ لا يشعرون بالأمان جسدياً واجتماعياً وعاطفياً داخل المدرسة، والتلميذ يعيش دومًا تحت حالة تهديد إما من المعلم أو من غيره من التلاميذ أو حتى من والديه، وأما في العلاقات الشخصية، فهناك ضعف في الرابطة بين التلميذ ومعلمه، وانعدام الثقة، فالتلميذ لا يريد مناقشة الأستاذ بقدر أن يحاول حماية نفسه منه، وفي موضوع البيئة التعليمية، فإن ضعف الإمكانيات هو السبب الرئيسي لفشل تلك المدارس في تكوين بيئة تعليمية مناسبة للطالب.
إن ترك التعليم الخاص يتضخم على حساب التعليم الحكومي سيكون له تداعياته الخطيرة في المستقبل، وترك جودة التعليم رهنا بالحالة الاقتصادية للعائلة هو نوع من الظلم، وقد يكون سبباً في صراع طبقي عنيف مستقبلاً، ولا يمكن لمجتمع تنعدم فيه لغة الحوار بين طبقتين أن يتقدم أو يتطور أو ينمو، وهناك بوادر انفصال بين طلاب درسوا في مدارس خاصة منحتهم كل ما يحلمون به، ومدارس حكومية بائسة لا تقدم لهم إلا الخوف والسخط، وما بين الفريقين فجوة تتسع على كل المستويات حتى تنعدم القدرة على التفهم والتفاهم، وهناك لن يكون باستطاعتنا السيطرة على ما يمكن أن يحصل.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.