منتدون عرب يحذرون من خطورة الانقسام العربي
أكد المتحدثون في الجلسة الافتتاحية لندوة "العالم العربي من الانقسامات إلى المصالحات"، والتي عقدها مركز دراسات الشرق الأوسط في العاصمة عمان السبت على ضرورة حلّ الخلافات القائمة بين التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في العالم العربي، وردّ الاعتبار للدولة الوطنية التي يجب أن يعاد بناؤها استناداً إلى تشكيل الجماعة الوطنية وبناء الشراكة السياسية، وإلى مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان والتبادل السلمي للسلطة.
كما أكد المشاركون في الندوة التي شارك فيها نحو ثمانين شخصية سياسية وأكاديمية من ست دول عربية، وتضمنت تقديم 18 ورقة بحثية ومداخلة على ضرورة أن تستعيد النخب العربية زمام المبادرة والاتفاق على تعظيم الحوارات المشتركة بين الشعوب العربية وتحييد ما يفرقها ويشتت شملها، والانطلاق نحو تحقيق المشروع النهضوي الحضاري للأمة، ووقف الهدر الذي تعانيه بالطاقات والمقدرات والأرواح.
وأشار المفكر العربي الدكتور حسن نافعة إلى أن الإشكالية الحقيقية التي تواجه المجتمعات العربية لا تتعلق بعمق الخلافات القائمة فيما بينها أو في داخلها وإنما في عجزها عن التوصل إلى آلية مناسبة لإدارة هذه الخلافات بطريقة تضمن عدم تحولها إلى انقسامات تستعصي على الحل، معتبراً أن ما ينقص المجتمعات العربية هو غياب الدولة المدنية الحديثة التي تعتمد مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة.
وأكد نافعة على ضرورة بحث الأسباب التي حالت حتى الآن دون تمكن المجتمعات العربية المختلفة من إقامة دول حديثة قادرة على تحقيق الأمن والتنمية وعدالة التوزيع، مشيراً إلى أن الاختلافات القائمة بين التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في العالم العربي، تدور في المقام الأول حول قضية الهوية وتمسها بشكل مباشر.
كما أكد نافعة على أن السنوات القليلة التي سبقت اندلاع الثورات العربية شهدت محاولات جادة لإجراء مصالحات تاريخية بين التيارات السياسية، خاصة بين التيارين القومي والإسلامي، معتبراً أن عجز الحركات التي توحدت في مواجهة الاستبداد عن الاتفاق على قواسم مشتركة تسمح بتأسيس نظم سياسية أكثر ديمقراطية وأقل استبداداً من النظم التي تمكنت من إسقاط رؤوسها، الأمر الذي مهّد الطريق أمام اندلاع ثورات مضادّة سرعان ما تحول بعضها إلى حروب أهلية دموية.
من جهته أكد الدكتور مصطفى عثمان ممثل السودان في الأمم المتحدة ووزير الخارجية السوداني الأسبق أن ضعف النظام الإقليمي العربي والتجاذبات والانقسامات بين وحداته ساهم في تعاظم الضغوط الدولية والتدخلات الأجنبية ووسّع من ظاهرة التبعية العربية للقوى الدولية الفاعلة والمسيطرة على النظام الدولي.
وشدّد عثمان على أنّ الدبلوماسية العربية، والتي هي وسيلة الاتصال الناجحة بين الدول والشعوب وذات الفضل في حلّ النزاعات وإيقاف الحروب وتعزيز التفاهم والتلاقي والحوار، قد تأثرت بحالة الانقسام العربي، سواءً على مستوى العلاقات العربية البينية، أو على مستوى خدمة القضية الفلسطينية، أو على مستوى المحافل الدولية إلى درجة القول بعدم وجود دبلوماسية عربية موحدة ذات أهداف مشتركة.
وأوصى عثمان بضرورة عدم التفريق في البحث عن أصل المشكلة وأسباب الخلافات والانقسامات، إلا بالقدر الذي يساعد في حلّها، بل يجب أن تتحد الجهود وتصب في سبيل واحد وهدف أكيد، وهو إزالة مسببات الانقسام والعودة بالعلاقات العربية إلى سابق عهدها ثم لأفضل ممّا كانت عليه.
فيما اعتبر رئيس مجلس النقباء الأردني نقيب أطباء الأسنان الدكتور إبراهيم الطراونة أن الأزمات العربية دخلت مرحلة غير مسبوقة من التعقيد والتشعب الى درجة جعلت من الصعب فهم مسبّباتها، رغم ما لدى الأمة العربية من مقوّمات الوحدة وعناصر القوة ما لا تملكه قوميات أخرى في العالم.
وأكد الطراونة على ضرورة أن تستعيد النخب العربية زمام المبادرة والاتفاق على تعظيم الجوامع المشتركة بين الشعوب العربية وتحييد ما يفرقها ويشتت شملها، والبحث عن مظّلة مشتركة للانضواء تحتها، مما يتطلّب إرادة صادقة ونية مخلصة وعملاً جاداً وتضحية من أجل استعادة مكانة الأمة التي تليق بها، واستثمار ذلك لمواجهة المشروع الصهيوني، وتحقيق مصالح القضية الفلسطينية.
فيما أكد رئيس مجلس النواب الأسبق الدكتور عبد اللطيف عربيات أن المصالحات الوطنية في البلاد العربية تحتاج إلى إرادة سياسية قوية من كل الأطراف الفاعلة، وتتطلب التفكير المنفتح الذي يقبل الآخر من أبناء الوطن رغم الاختلاف معه فكرياً أو سياسيًا أو في أي مجال آخر، مشيراً إلى أن غياب دور القوى الشعبية العربية الحية ومؤسسات المجتمع المدني يجعل العلاقات العربية- العربية مرهونة بتباينات ومصالح السلطات الحاكمة، وهذا الأمر يفاقم حالة الفرقة والتشتت التي تعيشها الأمة.
ورأى عربيات أن حالة الفوضى السياسية التي غرقت بها العديد من الدول العربية حرفت دولاً عربية بارزة ومؤثرة عن دورها الإقليمي الفاعل مما سمح بتقدم المشاريع المناوئة على حساب مشروع الأمة أيضاً، مشيراً إلى أنَّ حالة التفكك والانقسام تحتاج إلى التحرك بمسارين متوازيين للخروج منها، الأول منها يتعلق بالعلاقات العربية- العربية البينية بحيث يتم تصفية الخلافات العربية وفق قاعدة الاحترام المتبادل ، أما المسار الثاني فهو يتعلق بالحالة الداخلية العربية بين القوى السياسية الفاعلة الإسلامية والقومية واليسارية والوطنية.
واعتبر عربيات أن هذه المرحلة تتطلب أكثر من أي وقت مضى طيّ صفحة الخلاف والفرقة والانطلاق نحو تحقيق المشروع النهضوي الحضاري للأمة ومواجهة المشروع الصهيوني، ووقف الهدر الذي تعانيه بالطاقات والمقدّرات والأرواح، بما يكون مقدّمة لمسارات جديدة تساعد الأمة على النهوض مجددًا لتتبوأ المكانة التي تستحقها بين الأمم والشعوب.
من جهته أشار مدير مركز دراسات الشرق الأوسط الدكتور بيان العمري إلى أن هذه الندوة جاءت لتستكمل إطاراً فكرياً وسياسياً موحداً بدأه المركز منذ عام 2015 لتحقيق واقع عربي قومي ووطني قائم على التوافق والمصالحة، وملتئم بشراكات سياسية حقيقية، تؤسس لواقع عربي قادر على تجاوز العقبات والتغلب على التحديات ومنتصر لقضاياه المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتعاون العربي المشترك، ليكون للعالم العربي بأقطاره وشعوبه وقواه السياسية والاقتصادية والاجتماعية دور فاعل على المستويين الإقليمي والدولي.
وأكد العمري على أن استمرار الواقع العربي على ما هو عليه سيُفقد الأمة العربية كثيراً من الحضور الإقليمي والدولي، وسيعزز تدخل الأطراف الإقليمية والدولية في سياساتنا وفرض أجندتها، ولا أدلّ على ذلك من استغلال الاحتلال الصهيوني لهذا الانقسام العربي، وهذا الاحتراب القومي والوطني على حدّ سواء، لتعزيز استيطانه وتثبيت أركانه في قلب وطننا.
وعبّر العمري عن أمله بالتوصل إلى رؤية متماسكة وحدوية تنقل الواقع العربي من حالة الانقسام إلى حالة المصالحة، ومن حالة الضعف إلى حالة القوة، ومن حالة التبعية إلى حالة الاستقلال، ومن حالة العجز إلى حالة المبادرة، ليأخذ العرب دورهم الحقيقي في المشروع الحضاري لهذه الأمة على مستوى ترسيم مستقبل العالم واتجاهاته.
وبحثت الجلسة الأولى للندوة الحالة الراهنة في العالم العربي واستراتيجيات تحقيق المصالحات، وترأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عدنان بدران، حيث قدّم اللواء المتقاعد والخبير استراتيجي الأستاذ محمود إرديسات ورقة بعنوان "التداعيات السياسية والأمنية لحالة الانقسام الراهنة في العالم العربي" ركّز فيها على أنّ العالم العربي يمُرّ بأزمات بنيوية مركّبة، تلقي بظلالها على الأنظمة والشعوب، وتطال آثارها الجوانب السياسية والاجتماعية والأمنية على المستوى القطري القومي.
وأشار إرديسات إلى أن أبرز التداعيات والآثار السياسية الناجمة عن حالة الانقسام والخلاف على المستوى الوطني والقومي، ولخّصها في انكفاء العمل العربي المشترك لأيّ قضية عربية مشتركة، وعلى رأس هذه القضايا القضية المركزية الفلسطينية، وازدياد حالة الاستقطاب في العالم العربي لتشمل الدول الإقليمية كتركيا وإيران، وحتى إسرائيل بطريقة سرية، وافتقاد الدول العربية أيّ تأثير في الإقليم، واجتياح الاستقطاب المذهني والإثني العديد من المجتمعات العربية على ضوء الاستقطابات البينية العربية والإقليمية، وإسهام التوجهات الجهوية العربية على غرار مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي بتجسيد هويّات مناطقية بعيدًا عن أمل الوحدة، وافتقاد دولة مرجعيّة للعالم العربي تحافظ على الحد الأدنى من العمل العربي المشترك. وتغوّل الدول العظمى، وحتى الإقليمية على العالم العربي. وتراجع الحريات العامة، وتفرّد الأنظمة باتخاذ القرار، وتراجع التنمية الإقتصادية والبشرية في معظم الدول العربية.
وخلص إرديسات في ورقته إلى بعض الآثار السياسية والأمنية المتوقّعة لمستقبل العالم العربي، في حال استمرار الانقسام، مثل ازدياد الصراعات والخلافات البينية نحو مزيد من التجزئة والانتحار الذاتي، والتي يرى أنه لا مخرجَ لها إلاّ ببناء دولة المواطنة على أسس المشاركة والديمقراطية، وعندها ستكون الدولة بحكم مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية قادرةً على بناء العلاقات التكاملية مع جوارها العربي، وصولًا إلى منظومة عربية فاعلة قادرة على بلورة مشروع عربي في مواجهة المشروع الصهيوني أولًا، ومشاريع الدول الإقليميّة ثانيًا، ومواجهة التدخل الخارجيّ ثالثًا.
وقدم الدكتور حامد قويسي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة لندن في الجلسة ورقة بعنوان "إطلاق الحوارات الوطنية والقومية في العالم العربي والتحديات التي تواجهها" مؤكدًا على أنّ حالة الانقسامات والصراعات" المشتعلة بين دول المنطقة العربية وداخلها تفرض ضرورة إبداع رؤية واستراتيجية فعّالة للتعامل السياسي معها، إذ إن استمرار هذه الحالة سيقود إلى المزيد من التفتت والتقاتل ومن ثم بروز الدول الفاشلة، وفي نهاية المطاف سيكون مصير المنطقة وكيانها العضوي فضلًا عن وجودها الحضاري والمعنوي مهددًا بالانهيار والاختفاء.
وسعت هذه الورقة إلى دراسة موضوعها "حالة" الانقسامات والصراعات في إطار النظر إلى الحوار باعتباره "استراتيجية" للتعامل مع هذا الموضوع. وتسعى لكي تصل عبر هذه الاستراتيجية إلى تحقيق "الهدف" وهو "المصالحات" في إطار عملية مستمرة تتم من "الهياكل المتكاملة" والمترابطة.
وتساءل قويسي عن مدى اعتبار الحوار استراتيجية فعّالة للتعامل مع الصراعات والانقسامات في المنطقة العربية، مشيراً إلى ضرورة تحديد ماهية الحوارات الوطنية والقومية والشروط الأساسية لنجاح وفعالية الحوارات الوطنية والقومية كاستراتيجية فعالة للتعامل مع الصراعات والانقسامات في المنطقة العربية، وماهية "الفاعلين" في إطلاق ونجاح الحوارات الوطنية والقومية كاستراتيجية فعّالة للتعامل مع الصراعات والانقسامات في المنطقة العربية.
كما تساءل عن الاستراتيجيات والسبل الفعالة في ضمان إطلاق ونجاح الحوارات ودورها في تعزيز الدور الإقليمي والدولي العربي، مشيراً إلى ضرورة تحديد الشروط اللازم توافرها في موضوع الانقسامات والصراعات لكي يكون صالحًا وملائمًا ليقوم بذلك نوع من الحوار وصولًا إلى المصالحات. وما هي العملية أو الإجراءات الحقيقية وصولًا إلى فاعلية الحوار بما فيها الوقت المتاح لإدارة الحوار. وماهية الأبنية أو المستويات التي يمكن من خلالها إدارة عملية الحوار وصولًا إلى تحقيق أهدافه من المصالحات.
وفيما يتعلق بـ"بناء الشراكة السياسية والجماعة الوطنية في العالم العربي والتحديات التي تواجهها"، ركز أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الدكتور نظام بركات على مفهوم الشراكة السياسية وعلاقتها بالمصالحات الوطنية، موضحًا أن الشراكة السياسية تتطلب نشاطًا إيجابيًا لتحديد حقيقة المصالح الوطنية لكلًّ من المجتمع والدولة وإدارة التفاوض بقصد بناء التوافقات حول القواسم المشتركة في بيئة قائمة على التسامح ونبذ التطرف واستخدام العنف مع ضرورة العمل على احترام التنوع والتعدد داخل المجتمع واحترام حقوق الآخرين وإزالة بؤر التوتّر لخلق أجواء من الوفاق والاتفاق لتحقيق المصالح العامة، ومنع استخدام السلطة ومؤسسات الدولة في الصراع السياسي وإقصاء المعارضين.
وحول عناصر التوافق بين الشراكة السياسية والمصالحة خلص بركات إلى عدد من هذه العوامل، ومن أبرزها: السعي إلى إشراك كافّة القوى السياسية والأطراف المختلفة في عملية صنع القرار والعمل السياسي. والعمل على الوصول للمصلحة العامة والأهداف المشتركة لجميع الأطراف وقبول التضحية من أجل الأهداف العليا للأمة، وتحقيق التماسك والتوحد لمجابهة الأخطار المشتركة والاستعداد للدفاع عن ثوابت الأمة والوطن. والإيمان بالحوار واحترام الرأي الآخر واللجوء للوسائل السلمية والديمقراطية لحل الخلافات، وسيادة الروح الجماعية ومحاولة التوفيق بين القيم والانتماءات الفرعية لخلق الثقة المتبادلة. وأهمية وجود مرجعية قانونية واتقاقات معتمدة من قبل جميع الأطراف.
وبحسب برنامج تتناول الجلستان الثانية والثالثة الحديث حول "آفاق المصالحات الوطنية في العالم العربي- دراسة حالات" وتتضمن الحالات كلاً من فلسطين ومصر وسوريا والعراق، وتتضمن الجلسة الرابعة "آفاق المصالحات القومية في العالم العربي- دراسة حالات"، وتناقش آفاق المصالحة بين التيارات والقوى السياسية العربية، والأزمة الخليجية، وأزمة المحاور العربية وآفاق المصالحة بينها، وتتناول الجلسة الأخيرة للندوة "رؤية العالم العربي بين عهدين: الانقسام والمصالحات" ، فيما تختتم الندوة بكلمة ختامية وعرض التوصيات الصادرة عنها.