«واشنطن بوست»: حراكٌ شبابي لم يشهده الأردن من قبل..

«واشنطن بوست»: حراكٌ شبابي لم يشهده الأردن من قبل..
الرابط المختصر

ما زالت المظاهرات المناهضة للحكومة مستمرةً في الأردن في شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وبعضها انتهى الأسبوع الماضي باعتقالاتٍ وأحداث عنف، ولم يؤثر سوء الأحوال الجوية والأمطار الغزيرة على توافد المحتجين.

وبينما قد يظن البعض أنَّ هذه الاحتجاجات هي امتدادٌ للمظاهرات المناهضة لإجراءات التقشف التي بدأت هذا العام وأطاحت الحكومة السابقة، إلَّا أنَّ شون يوم، الأستاذ المساعد للعلوم السياسية في جامعة تمبل، ووائل الخطيب، الباحث المستقل في العلوم الإنسانية في عمَّان، يجادلان في مقالٍ في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية بأنَّ الأسباب الكامنة وراء تلك الاحتجاجات تتجاوز الاعتراض على الأحوال الاقتصادية وقوانين الضرائب الجديدة.

يرزح الأردنيون تحت نسبة بطالة مرتفعة تصل إلى 19%، وقوانين ضرائب جديدة يدعمها صندوق النقد الدولي، وفضائح فساد كان آخرها متعلقًا بتصنيع سجائر فاسدة، وتشريعاتٍ قمعية مثل مشروع القانون المقترح لتنظيم الشبكات الاجتماعية. ونتيجة ذلك الوضع خسرت الحكومة الجديدة بقيادة عمر الرزاز ثقة الشعب، ما تسبب في اضطراباتٍ واسعةٍ في المملكة الأردنية.

لكنَّ الخطيب ويوم يريان أنَّ هناك أسبابًا كامنةً وراء تلك الاحتجاجات تتجاوز الغضب تجاه سياسات التقشف التي تنتهجها الحكومة. ويعزيان تلك الاضطرابات إلى انهيار الأسس القبلية التي انبنى عليها النظام الملكي الحاكم في الأردن، لأسبابٍ تتعلق بتغيُّر الأجيال في المملكة، ويعتقدان أنَّ قواعد السياسة تتغير جذريًا في الوقت الحالي.

يشير الباحثان إلى أنَّ دراستهما حول الحراك الشبابي في الأردن توضح أنَّ الاضطرابات الحالية تعكس الإرث المستمر للربيع العربي. فهذه الاحتجاجات ليست معارضةً إسلامية، ولم تحركها منظمات المجتمع المدني. والأحزاب الديمقراطية ما زالت لا تشارك في انتخابات البرلمان. وهذه التظاهرات أيضًا وفقًا لهما ليست انتفاضةً للقومية الفلسطينية، البعبع الذي تهابه أجهزة الأمن الأردنية القلقة بشأن شعبٍ ثلثيه من الفلسطينيين. لكنَّ الاضطرابات الحالية بحسب الباحثين تكشف مدى قدرة الجيل الحالي على استخدام الاحتجاجات للتعبير عن وجهة نظره والعمل على تغيير السياسات في بلاده.

الناشطون الشباب يريدون المشاركة في صناعة القرار

لفهم السياق الأوسع للاحتجاجات، يستعرض الخطيب ويوم حالة الشباب في الأردن، التي يشكل فيها الشباب تحت سن الثلاثين أكثر من 70% من سكانها. ويوضحان أنَّ الكثيرين من المراهقين والشباب من جيل الألفية، وخاصةً الذين ينتمون للمجتمعات القبلية التي كانت عادةً تتسم بالولاء للمملكة، أصبحوا معتادين على مهاجمة سياسات الحكومة والتشكيك في شرعية حكم الهاشميين المستمر منذ قرنٍ تقريبًا. وما يثير حراكهم الجمعي هذا ليس فقط الغضب تجاه السياسات النيوليبرالية، لكن عدم تمكينهم سياسيًا. فهم متعطشون للمشاركة بصوتهم في صناعة القرار في المملكة، ولم يعودوا راضين فقط بالمشاركة في حوارات مجالس البلدية أو الانتخابات على مقاعد البرلمان عديم السلطة. وأصبحوا يرفضون العقد الاجتماعي الأردني العتيق الذي تتطلب ثقافته منهم الانصياع للدولة. ويشعرون بالإحباط أيضًا من النظام الحاكم الذي لا يستجيب لنداءاتهم، ولا يدرك أنَّ الأردن قد تصبح البلد الذي سيخرج منه الربيع العربي الجديد.

 

وما يجعل حركة المعارضة هذه متقلبةً وغير متوقعةً وفقًا للباحثيْن هو استمراريتها وتلقائيتها واعتمادها على الشبكات الاجتماعية. فهذه التظاهرات الشبابية دون قادة، لكنَّها تتكرر كل أسبوع، ويزداد عدد المشاركين فيها كل مرةٍ، ويكتسبون مزيدًا من الخبرة ويتكيفون مع رد فعل السلطات.

ويوضح الخطيب ويوم أنَّ تكرار تلك التظاهرات واستمراريتها وطبيعتها تجعلها مختلفةً عن الفاعليات الأكثر تنظيمًا التي يقيمها النشطاء الأكبر سنًا، مثل مسيرة أكتوبر (تشرين الأول) التي دعت إلى الإصلاح الدستوري، والتظاهرات الدورية المؤيدة لفلسطين، فهذه تكون فاعلياتٍ فردية من السهل احتواؤها. وبينما كان الناشطون المقيمون في عمَّان هم من يقودون احتجاجات الصيف الماضي، يشير الباحثان إلى أنَّ الموجة الحالية للتظاهرات بدأت حين دعت مجموعة مجهولة على فيسبوك تحت اسم «الأحرار» إلى تظاهرةٍ في عمَّان يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي تحت شعار «معناش»، الذي استخدمته التظاهرات السابقة. وشارك في التظاهرة مئات الأشخاص. ويوم الخميس التالي 6 ديسمبر (كانون الأول)، كانت فاعلية «خميس الشعب» التي حضرها أكثر من ألف متظاهر تدفقوا للمشاركة. وبعدها بأسبوع، جذبت احتجاجات الخميس 13 ديسمبر بضعة آلاف من المتظاهرين تحت شعار «مش ساكتين».

كل تظاهرة من تلك التظاهرات كانت أكبر من سابقتها، واستخدم فيها المحتجون شعاراتٍ قديمة من الحراك المستمر في الأردن.

لكن إلى جانب هذا، يعتقد الباحثان أنَّ استراتيجيات النشطاء الشباب وسماتهم مدهشة، وذلك لأربعة أسباب. فأولًا، بينما انضم الإسلاميون وأعضاء النقابات والنواب السابقون للاحتجاجات، إلا أنَّ معظم المشاركين الشباب لا ينتمون لأي مجموعةٍ رسمية أو منظمةٍ مدنية. وما يحركهم لم يكن الأيديولوجيا، لكن رغبتهم في التعبير علنًا عن آرائهم. وثانيًا: لم تكن هناك قضية واحدة تركز عليها الاحتجاجات، وإنَّما تطالب كل مجموعة من النشطاء بمطالب سياسية واقتصادية مختلفة، تتنوع بين إلغاء قانون الضرائب وتحجيم الملكية المطلقة التي تحكم المملكة. وهذه التعددية تُصعِّب إخماد الاحتجاجات. فبينما يمكن للمسؤولين قمع المعارضة التقليدية بخنق المنظمات التي تقف وراءها، كما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين، فإنَّ هذا الجيل الجديد من الناشطين لا يمكن قمعه إلا فردًا فردًا.

وثالثًا، هناك اختلافٌ جغرافي أيضًا في الاحتجاجات الحالية. إذ يوضح الباحثان أنَّ المتظاهرين يتجمعون بالقرب من رئاسة الوزراء، ويأتون من كل أنحاء المملكة، والكثيرون يأتون من حراك الريف أو المجموعات الشبابية القبلية، بينما الاحتجاجات القبلية السابقة، من تظاهرات 1989 وحتى احتجاجات حراك 2011 و2012، كانت تستهدف المدن الهامشية، مثل الطفيلة وذيبان. والآن تعلَّم الشباب من تلك المدن أن ينظموا احتجاجاتهم في العاصمة لإجبار الحكومة على المواجهة. وهناك سببٌ أخير يميز تلك الاحتجاجات وفقًا للباحثيْن، وهو أنَّها تتبنى سياساتٍ رمزية تستهدف الملك. فمثلًا يضع الكثير من المشاركين في التظاهرات الكوفيات الحمراء (المعروفة في الأردن بالشماغات الحمراء) المرتبطة بالوطنية القبلية الأردنية. وهذا يرسل رسالةً واضحة قوية: المحتجون ليسوا متطرفين أو عناصر أجنبية، لكن شباب من القبائل موالون للمملكة، وإن كان هذا الولاء لا ينسحب على قيادتها.

القمع الأمني

يشير الباحثان إلى أنَّ هناك اختلافًا أيضًا في رد فعل السلطات في الأردن. فالدولة طوَّرت استراتيجياتها. وأصبحت المعارضة ممارسةً خطيرة بفعل الاعتقالات التي طالت المنتقدين والتهديدات باستخدام قانون مكافحة الإرهاب لمعاقبة الصحفيين. ويعتقد مراقبو حقوق الإنسان في الأردن أنَّ المعتقلين السياسيين يتعرضون للتعذيب. لكنَّ تظاهرات الخميس 13 ديسمبر «مش ساكتين» شهدت رد فعلٍ أمني أكثر حدة.

إذ أبلغ النشطاء أنَّهم تعرضوا للتهديد من أجهزة الأمن والسلطات المحلية قبل وصولهم عمَّان بفترةٍ طويلة. وعند وصولهم لم يواجهوا فقط شرطة مكافحة الشغب التي وصلت أعدادها إلى المئات، لكن كانت تُحلق فوق رؤوسهم طائراتٌ بدون طيار. وأفاد أحد الأشخاص المشاركين بأنَّه يعتقد أنَّ تلك الطائرات كانت كاميراتٍ للتعرف على وجوه المشاركين، لتُمكِّن عملاء أجهزة المخابرات من القبض على أشخاصٍ بعينهم.

وما صدم المحتجين أكثر وفقًا للباحثيْن هو ظهور قوات البادية الأردنية في مسرح التظاهرات. إذ لم تُنشر هذه القوات المُدرَّبة المعروفة بوحشيتها في مناطق حضرية منذ الفض العنيف للاحتجاجات الطلابية بجامعة اليرموك عام 1986. وبهذا كانت الدولة بحسب الخطيب ويوم تُلمح إلى السهولة التي يمكنها بها فض تلك الاحتجاجات الشبابية مرةً أخرى. وفي الوقت نفسه، سعى المسؤولون الأردنيون لحرمان المحتجين القبليين من أصالتهم بادعاء وقوف عناصر أجنبية وراء تلك التظاهرات. وسريعًا بعدها أعلن الملك عبد الله توجيهاته بإصدار قانونٍ للعفو العام يشمل آلاف الأشخاص، وفي الوقت نفسه راح يذكر الشعب بـ«الظروف العصيبة» التي يمر بها الأردن نظرًا لأعباء اللاجئين السوريين وأزمة القدس المستمرة.

رد الفعل هذا وفقًا للخطيب ويوم لا يخرج عن الاستراتيجية المعتادة للأردن، والتي فيها تلجأ الحكومة الأردنية عادةً للتنصل من مسؤوليتها عن الاحتجاجات بينما يُظهر الملك تعاطفه مع الشعب. لكنَّ الإجراءات الأمنية القاسية التي بدأت تنتهجها المملكة تكشف استخفافها بالحراك الشبابي، وهذا التجاهل سيتسبب في إثارة الوضع أكثر فأكثر بحسب الباحثيْن.

ويخلُص الباحثان إلى أنَّه حتى لو نجح القمع في إنهاء تلك الاحتجاجات الأسبوعية كل مرة، فإنَّ النشطاء الشباب مستمرون، يتعلمون ويتواصلون ويخططون، في انتظار انفجار الأزمة القادمة.