هل تنتبه الحكومات العربية إلى الطوفان الشعبي الهادر؟

لن تكون مرحلة ما بعد طوفان الأقصى كالتي قبلها؛ لن تستطيع أميركا استعمال "لهّاية" ما تسمّى "عملية السلام" أو "السلام الاقتصادي" لاحتواء الفلسطينيين أو لتهدئتهم هم أو معظم الشعوب العربية. على الحكومات العربية أن تواجه الحقيقة، فإذا كانت الانتفاضات العربية قد انتهت إلى انتكاساتٍ وهزائم، نتيجة غياب قيادات تحرّرية، وبسبب الثورات المضادّة والتدخّل الخارجي، فإن الحشود التي تطوف شوارع العواصم والمدن العربية استفاقت على تهديد استراتيجي لإنسانيتها ووجودها، فلا يمكن الاعتقاد أن التغيير الاجتماعي والنضال من أجل الحرّيات يكونان منفصلين عن مواجهة خطر وجود الدولة الصهيونية.

قد يكون الأهم أن الحكومات العربية وجدت نفسها في مأزق، فليس من السهولة الاستمرار في نهج علاقات التبعية لأميركا أو تبرير التعامل مع الاتفاقيات مع إسرائيل بأنها من المسلّمات التي يجب أن تستكين لها الشعوب، فحجم الوحشيّة الإسرائيلية ودعم الولايات المتحدة، بل ومشاركتها في عملية، ترقى إلى جريمة إبادةٍ بشريةٍ، أمام الكاميرات والشاشات.

خيارات الأنظمة والحكومات العربية صعبة، فواشنطن لا تهتم بمراعاة مصالح أحد، إذ إنها دخلت في حربٍ علنيةٍ ضد الشعب الفلسطيني، وليست مستعدّة لإيقاف المجازر، بل ترسل السلاح إلى إسرائيل لتستمرّ في مجازرها. ولم يعد هناك أهمية عندها لما يمكن أن تقوله أي حكومة عربية أو زعيم عربي، وهذا ما استنتجه ملك الأردن، عبد الله الثاني، فألغى، بالتفاهم مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، اجتماع عمّان الرباعي مع الرئيس جو بايدن. فمذبحة مستشفى المعمداني كانت الكلمة الفصل قبل بدء الاجتماع، ولم يعد له أي قيمة سوى إذا كان الهدف الأميركي إعطاء أوامر لدخول الأطراف المساهمة في الاجتماع، أي الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، بشتّى الطرق في الحرب ضد المقاومة، بل وعلى الشعب الفلسطيني. بعدها اشترك بايدن في المساهمة في الكذب، بتبنّي الدعاية الإسرائيلية وفي ازدراء حياة الفلسطينيين، فالخط الفاصل قد رسم على الرمال، وقد بات جليا أن نظرة واشنطن إلى الأنظمة دونية، تقرّرها قدرة هذا النظام أو ذاك على أداء دور وظيفي. وقد كان الوضع دائما على النمط نفسه، لكن عملية طوفان الأقصى والحرب الأميركية الإسرائيلية الهمجية، ومشاهد الحب والمحبّة والإخاء بين بايدن والمسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، وهي مشاهد غير مسبوقة، لم تبُقِ للحكومات والزعماء العرب أي قدر من الهيبة أمام شعوبهم الغاضبة، المنتصرة لإنسانية الفلسطينيين وإنسانيتها، التي لم تعد تتحمّل خنوعا وعُرياً أمام مجازر إسرائيل، سواء خلال النكبة وقبلها وبعدها، وخلال الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982، وحروب واشنطن على العراق في عامي 1991 و2000.

واشنطن لا تهتم بمراعاة مصالح أحد، إذ إنها دخلت في حربٍ علنيةٍ ضد الشعب الفلسطيني، وليست مستعدّة لإيقاف المجازر، بل ترسل السلاح إلى إسرائيل لتستمرّ في مجازرها

الفرق أنه إذا كانت واشنطن استطاعت أن تدعم الحكومات العربية بوعد تضليل للشعوب، فالأمر لم يعد ممكنا أو ليس بالسهولة بعد العدوان المستمرّ على قطاع غزّة، خصوصا وأنه بعد انتكاسة الانتفاضات العربية أو هزيمتها، استقوت الأنظمة على شعوبها، سواء حكومات ما قبل الانتفاضات أو التي نتجت عنها. تسابقت الحكومات والأنظمة، في الآونة الأخيرة، في أساليب كتم الأصوات وقمع الحريات، وبخاصة مع توسيع التطبيع مع إسرائيل لنيل رضا أميركا.

بعض المظاهرات التي تشهدها العواصم والمدن العربية لم تقابلها الأنظمة بعنفٍ منظّم، باستثناء أحداثٍ بسيطة هنا وهناك، ولم تحاول منعها، وهي أصلا لا تستطيع ذلك من دون المخاطرة بمواجهاتٍ دمويةٍ لا تقدر على ثمنها سياسيا وأمنيا. لكن الأنظمة أيضا تستفيد حاليا من هذه الاحتجاجات، لأنها هي أيضا تشعر بخطر وإهانة وغضب من هول ما يُرتكب أمامها من أهوال، والاستهتار الأميركي بها، وهذا جيد، لكنه ليس كافيا. فهي تواجه شعوبا غاضبة بالأصل من استحالة حل الأزمات الاقتصادية، ومن سياسات الإفقار والتفقير، وغلق نوافذ التعبير والمشاركة في صنع مصيرها، فيما تفتح الأبواب على مصراعيْها لاتفاقيات التطبيع التي تعمّق السيطرة الإسرائيلية على اقتصاد الشعوب باسم سلام وازدهار لن يأتيا، والنتيجة استقواء أميركي - إسرائيلي على أهل غزّة والشعب الفلسطيني.

تجريد الإعلام الغربي الفلسطينيين من إنسانيتهم، بانحيازه البشع لجرائم إسرائيل والرواية الإسرائيلية، شكّل أداة تثوير للشعوب العربية

ما يحدُث يجب أن يكون درسا للحكّام، بأن الاستقواء على الشعوب يؤدّي إلى استقواء القوى الخارجية على الحكومات والأنظمة، لكن ليس هناك أمل كبير في أن تتعلم، رغم أن المأزق غير مسبوق ولا تستطيع أي دولة، باستثناء من غرق في النفايات التطبيعية، الاستمرار في سياسات التطبيع والقمع وتغييب الشعوب وطحنها نتيجة غياب الحد الأدنى للعدالة الاجتماعية. وهذه لحظة مهمة وفارقة للقوى الشعبية للتحرّك وفرض شروطها، فقد انكشفت حقيقة "الحامي الأميركي" للجميع، فهو حامٍ بالفعل، ولكنه لإسرائيل فقط، وإن كان ذلك مفضوحا، وليس للأنظمة التي استسلمت لنفوذ أميركا، وجاءت بلحظة الحقيقة.

أميركا أيضا في مأزق، فهي لم تتخيّل أن خطتها المعلنة بتغيير الرأي العام العربي المعادي لإسرائيل قد فشلت، لأنها اعتقدت أنها انتصرت بعد توقيعها الاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين والمغرب، وأنها ستنهي أي حديث عن القضية الفلسطينية، ولم تفهم أن هذه القضية هي الأساس والجوهر، وليست مسألة عابرة ووقتية، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني متجدّدة جيلا بعد جيل، فاختارت المشاركة بحرب إبادةٍ تعتقد أنها تفتح الطريق لها ولإسرائيل، من جديد.

وأعتقد أن البيت الأبيض لم يفق بعد على معنى النهوض الشعبي وتداعياته، وتحوّلات ما بعد المعركة، واختارت بعث رسالة كراهيةٍ مفادها بأنها مستعدّة لإبادة من يقف أمامها، وليست على استعداد للاستماع أو محاباة، ولو ظاهريا، أي حكومة عربية. وهذه فرصة الشعوب للضغط على الأنظمة؛ بأن مصدر الشرعية هو الشعب وليس أميركا. لذا، فإن استمرار الاحتجاجات ضروري، وصار لزاماً رفض العودة إلى زمن الاستكانة التي فرضها القمع وانتشار اليأس من قدرة الشعوب على تغيير واقع سطوة إسرائيل. فالعودة إلى الاستكانة وكأن شيئاً لم يكن، تُلحق بنا هزيمة ساحقة، فلا بديل سوى الانخراط بالعمل العام ومقاطعة إسرائيل، ولا مكان لمقولة "ما الفرق؟" "ولن نغير شيئاً"، فدماء أهل غزة وأطفالها وأهل الضفة بذلك ستذهب هدراً، وكلنا سيتحمّل مسؤولية ذلك. ويجب أن تصبح التظاهرات بداية نهوض شعبي ومَطالب محقّة، فنحن نعيش كابوس المذابح، ونشهد أيضاً بطولة المقاومين وصبرهم.

من الخطأ استكانة الأنظمة إلى الاعتقاد بأن المظاهرات ستخفُت والغضب سيختفي، فما بعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبله

هنا يجب ذكر أن تجريد الإعلام الغربي الفلسطينيين من إنسانيتهم، بانحيازه البشع لجرائم إسرائيل والرواية الإسرائيلية، شكّل أداة تثوير للشعوب العربية. فالمشاهد العربي رأى في ذلك احتقاراً لإنسانيته، كفرد وكجزء من الشعب العربي. وهذه كلها مؤشّرات على تكوُّن وعي جديد، فلا شهادات عليا ولا نجاحات تغير من حقيقة ثقافة ازدراء المستعمر الشعوب الرازحة تحت الاحتلال أو الراضخة للهيمنة الأميركية.

في الأردن بالذات، الغضب عارم، ليس فقط خوفاً من تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، وتصفية قضيتهم على حساب الأردن، بل هناك شعور عميق لدى الأردنيين بأن ما يشهدونه يمسهم؛ وأن وجود سفارة إسرائيلية في عمّان أصبح رمزاً لمذبحة غزّة، وللسطوة الإسرائيلية، وهناك إحساسٌ بالإهانة بأن إسرائيل موجودة في الأردن، ويجب التحرّر منها، وهذا تحذيرٌ شعبي غير مسبوق بقوّته لأصحاب القرار، إذ يأتي من العشائر الأردنية ومخيمات اللجوء الفلسطينية معاً. وهذه أيضاً فرصة للحكومة الأردنية لمراجعة سياساتها، إذ يجب أن تعي أن أميركا، بتصريحاتها ومشاركتها في حرب الإبادة في غزّة، أصبحت خطراً على الجميع، فلدى الحكومات العربية، أو على الأقل معظمها، فسحة الاعتماد على معارضة الشعوب في علاقتها بواشنطن، والتنسيق مع قوى كبرى، مثل الصين وروسيا، وإقليمية كتركيا وإيران، لإحداث شيءٍ من التوازن في المنطقة وتخفيف ضغط أميركا، المرتبكة أصلاً، عليها.

لا نأمل من أصحاب القرار العرب الاستماع لما نقوله، لكن صوت المظاهرات والاحتجاجات أعلى، ومن الخطأ استكانة الأنظمة إلى الاعتقاد بأن المظاهرات ستخفُت والغضب سيختفي، فما بعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبله.

أضف تعليقك