نعم.. المرأة ثورة
من السودان إلى فلسطين، ومن الجزائر إلى العراق، مروراً باليمن ولبنان، زيّنت الصبايا والنساء الشاشات في مقدمة المظاهرات والاحتجاجات، في تجسيدٍ لرؤية تحرّرية، لا يمكن أن تكتمل من دون وجودهن، إذ تبقى انتفاضة الشعوب من أجل الحرية والعدالة منقوصة من دون مشاركة المرأة والاعتراف القانوني بحقوقها.
فرض وجود المرأة في شوارع العواصم والمدن العربية ويفرض اعترافاً يكسر القيود الاجتماعية والنفسية، وبالتالي وضعها القانوني والسياسي، ففي اللحظة التي قادت "الكنداكات" الهتافات والأغاني في ساحات السودان، تهشّم الحظر على نشاطها العام، فيما تلألأت الأجواء بإطلالة اللبنانيات الأنثوية، محطّماتٍ صورة نمطية محافظة، سيطرت على المجتمع العربي في العقود الأخيرة، تحكم على المرأة من خلال لباسها، وتحدّد قيمة عقل الفتاة وجدّيتها بمدى التزامها بما يراه المجتمع الذكوري النظرة محتشما أو غير محتشم.
الأساس أن تشعر الفتاة أو المرأة بحرّية خيارها، إن كان اختيار ثيابٍ تلبسها، أو دراستها، أو تقرير حياتها ومستقبلها. في حينه، هي تختار أن تلبس الحجاب والعباءة أو الفستان أو الجينز، وترسم وجهها كما تريد، لأنها أمورٌ يجب ألا تدخل في تحديد دورها في المجتمع، أو كبح طموحها، لا أن يكون خيارها رهينةً لمشيئة الذكور أو الضغط المجتمعي. نعم هناك اعتباراتٌ للبيئة، لكن ما يحدث أنها تجد نفسها معاقبة أو محظورة الحركة، رهنا لمشيئة عائلتها، فيما يتفلت شبابٌ كثيرون من مسؤولياتهم في تعاملهم مع الفتيات والنساء، وكأنهن لسن أكثر من صيدٍ يتلذذ الذكر بالحصول عليه، وتركه وهجره، أو استعمال العنف معه، لأن الفتاة ليست أكثر من صيد لا قيمة لمشاعره أو حياته.
قد يعلّق قارئ بأن هذا الكلام ليس مهماً، وأنه تقزيم للثورات والانتفاضات ضد الاستبداد
"ظلم المرأة والتعامل معها بدونية هو جزء من التركيبة الاستبدادية، أي تهميش لجزء كبير من المجتمع"
والاحتلال الصهيوني، وأي احتلال آخر، لأن هذه مسائل أقل من هامشية. لا، هي ليست هامشية، بمعنى أن ظلم المرأة والتعامل معها بدونية هو جزء من التركيبة الاستبدادية، أي تهميش لجزء كبير من المجتمع، وبالتالي حرمان المجتمع من طاقات ومواهب وقدرة على العطاء، فلا حديث عن التنمية الاجتماعية الاقتصادية من دون إزالة القوانين التي تظلم المرأة، زوجةً أو أماً أو ابنة أو أختاً، ولا تحقيق لتنمية مع قوانين تميز ضد المرأة وكأنها كائنٌ مسلوب القدرة والإرادة.
نزلت النساء العربيات إلى الشوارع وجبهات القتال في الانتفاضات العربية، أو في حركات التحرّر الوطني من الجزائر إلى فلسطين، لأنهن يحلُمن بغدٍ أفضل. والتاريخان، القريب والبعيد، مليئان بأسماء المناضلات والأسيرات والشهيدات، فالسجل حافل والتضحيات مستمرة. ولكن التاريخ أيضا شاهد على أن حركات التحرّر الوطني وحكوماتها وحكومات ما بعد الثورات أهملت قضايا المرأة، بل وشهدنا إعادة إنتاج العقلية والممارسات نفسها، على الرغم من الوعود والشعارات، وكأن المرأة لم تكن موجودة، ومشاركتها لا تُذكَر، إلا في مناسباتٍ وطنيةٍ أو سياسية، أو حتى في إعلانٍ متعلقٍ بحقوقها، واحتفالاتٍ ليست أكثر من تذكير مؤلم بحرمان المرأة من حقوقها.
التحكّم في خيارات المرأة في الحياة وفي شكلها، اختزال لإصرار النظم السياسية والاجتماعية على دونية موقع المرأة في المجتمع، وهذه الدونية والنظرة إلى المرأة أنها ليست إلا مصدر إغراء وإغواء وفخ يتربص بكل رجل ويسحبه إلى الخطيئة، هي في صلب العقلية التي أنتجت قوانين أحوال الأسرة المختلفة التي تحوي نصوصاً تحارب المرأة، بل وتبتزّها وتحرمها من أبنائها وتجعلها حبيسة ظلم وهدف عنف قاسٍ ومتوحش من زوجٍ أو أخ أو أب يفضي إلى قتلها، فحياتها ملك لأحدهم أو لجميعهم. ولذا نجد أن تغيير قانون الأحوال الشخصية أو العائلية أضحى معركةً شرسة، لأن وضع المرأة الاجتماعي والشخصي أصبح عند أكثرية في العالمين، العربي والإسلامي، رمزا للانفلات وضياع الأخلاق. لا يريد المجتمع الذكوري فقدان "سلطته" وتفوقه في الهيكلية المجتمعية، فالسيطرة على المرأة عنوان الرجولة، وفي نظر بعضهم هي آخر ما يملكه الرجل "من كرامة موهومة" في دول الاستبداد.
نرى أبا فلسطينيا يدفن ابنته حية، وعائلة تتواطأ في تعذيب ابنتها حتى الموت، فيما العائلة نفسها ضحية قهر الاحتلال والفقر والقمع السياسي. ولا ترى الأغلبية أن منظومة الحرية لا تتجزأ، وأن اضطهاد الزوجة أو الأم أو الأخت جريمة، فهي تتعرّض لظلم استبداد الأنظمة العربية، وللاحتلال في الحالة الفلسطينية، وظلم العائلة والعيش في خوف وذعر مستمر، تعيش من دون مساندة، ولا يصل صوتها إلا بعد تعذيب إلى حد التشويه، أو بعد اكتشاف جثتها. والرجل نفسه ضحية هذه المنظومة الاجتماعية القمعية، لأنه يعيش في ذعر أن يهتز "شرفه" ضمن مفهوم يشرعن حبس الفتاة ومنعها من الخروج وضربها وقتلها، فيتحول هذا الرجل أو الشاب إلى مشروع مجرم، وزوجته أو حتى الفتاة التي يحبها إلى مشروع ضحية، فكيف إذن نتحدّث عن ثوراتٍ، وعن عملية تغيير، فيما نحافظ على المفاهيم والممارسات المشوّهة؟
"نرى أبا فلسطينيا يدفن ابنته حية، وعائلة تتواطأ في تعذيب ابنتها حتى الموت، فيما العائلة نفسها ضحية قهر الاحتلال والفقر والقمع السياسي"
يحتفي رجال كثيرون بالشهيدات والمناضلات على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي المقالات والخطب السياسية والأوراق البحثية، لكن الاختبار هو في الموقف من حقوق المرأة عمليا، وليس لفظيا فقط. وظاهر أن التباين بين الموقف المعلن والممارسة سمة في نفاق المواقف من الحقوق، إن كانت حقوق المرأة أو العمال أو الأطفال أو حقوق الإنسان بشكل عام، فمفاهيم السيطرة والهيمنة والاستغلال لا تتسق مع الإقرار بالمساواة والحقوق، وهذه من خصائص النظام الرأسمالي، فالمساواة تمنع من مضاعفة الربح وتكديس الثروات، ولكننا نرى أن المجموعة القيمية نفسها تحكم علاقة الأقوى بالأضعف، لنجد أنفسنا في سلسلة هرمية من الاضطهاد والقمع. وبمجرد الحديث عن حقوق المرأة أو تنظيم نساء مسيراتٍ تطالب بحماية المرأة ووقف العنف ضدها، ينبري كثيرون للهجوم والاتهام، فبحسب بعضهم، على من يحمل هموم المواطن والإنسان أن ينسى حقوق المرأة. وينسى هؤلاء أن المرأة قد تكون أما أو زوجة معتقل أو شهيد أو جريح، أو نفسها مشروع شهيدة. ويتم الاستشهاد بجرائم مماثلة في الغرب، في تبرير مبطن لجرائم في بلادنا، أو لجعلها أقل قسوة وأهمية، فالمعركة مستمرة في كل مكان، وهي معركة تعديل قوانين أو تغييرها، وتغيير مفاهيم.
التهمة الشائعة أن حقوق المرأة بدعة غربية، تحاول بها الحكومات الأوروبية والأميركية صرف الأنظار عن قضايا الاستغلال والفقر والاستعمار، وعن دور هذه الحكومات في نهب الثروات وتدمير دول عربية وغير عربية. وهذا في جزء منه صحيح، فيكون دورها بالتركيز على تمويل مشاريع معينة تصبح هي الأولوية، وهنا دور المنظمات والمؤسسات الوطنية والانتفاضات بدمج حقوق المرأة ضمن رؤية تحرّرية بدلاً من معاقبة المرأة، وبالتالي المجتمع بأكمله. فلنتحرّر من غشاوة الظلمة، ونحتفي ونشارك في ثورة الكنداكات الجميلات من المحيط إلى الخليج.*العربي الجديد