البيوطيقا العلمانية 2

البيوطيقا العلمانية 2
الرابط المختصر

الجزء الثالث من البــ

 

 

(2) المحافظة Principlism ومنتقديها:

وفي حين أن تطبيق الفلسفة الأخلاقية على المعضلات الطبية يمكن له إثراء عملياتنا العقلية دون شك، فإنه نادرا ما يقدم وصفات واضحة للأطباء الذين يواجهون معضلات أخلاقية. فعلى سبيل المثال، قد نقول للطبيب أن: النفعية ستفعل كذا، والكانطية ستفعل كذا، الأمر الذي سيكون مثيرا للاهتمام، ولكنه ليس مفيدا. والطريقة الأكثر عملية لاتخاذ قرار فيما يتعلق بالقضايا الطبية هي تلك التي وضعها توم بوشامب وجيمس شيلدريس في كتابهما التأسيسي"مبادئ الأخلاقيات الطبية الحيوية" والذي صدرت منه الطبعة السادسة حتى الآن.

 

يركز بوشامب وشيلدريس على أربعة مبادئ أساسية: الاستقلالية، وعدم الإضرار وفعل الخير، والعدالة، من جملة ما وصفه بوشامب بـ "معظم القواعد الأساسية العامة للأخلاق المشتركة".

 

(أ) الاستقلالية: تعني كلمة الاستقلالية أو الحكم الذاتي autonomy(من اليونانية autos بمعنى ذاتوnomos بمعنى حكم) الحكم الذاتي لمدن غير مستقلة. ومنها امتدت لتصبح حكم الذات الفردي وهي تشتمل على مجموعة من المصالح مثل الحرية، والخصوصية،وحرية الاختيار. وفيما يتعلق الطب، فإنها تعني احترام الاستقلال الذاتي يعني إعطاء المكلفين البالغين الحق في اتخاذ القرارات بشأن علاجهم الطبي.

 

(ب) عدم الإضرار: أو (لا ضرر ولا ضرار) وتعود أصوله إلى القسم الابقراطي. وهو المبدأ الذي يجسد فكرة أن على الأطباء أن لا يوظفوا الممارسة الطبية لأغراض غير أخلاقية، مثل التورط في التعذيب أو الإعدام.

 

في حين أنه سيكون من الصعب أن تجد شخصاً يعتقد أنه من المقبول أن يتورط الأطباء بالتعذيب، فإنه في حالات أخرى قد يكون هناك خلاف حول ما يعتبر "ضررا". على سبيل المثال، قد يزعم البعض أن هذا هو المبدأ الذي يحظر المشاركة الطبية في القتل الرحيم، في حين أن الآخرين قد يرون أننا حين نضع حدا لحياة مريض يعاني، فإن الطبيب حين يوافق على طلب القتل الرحيم لم يسبب الضرر لمريض، وإنما يكون قد عمل على تجنيبه ضرراً أكبر من الموت.

 

(ج) فعل الخير: يشير إلى الالتزام بالعمل على مصلحة الآخرين. لأن العمل لما فيه خير المريض هو الهدف الأساسي من الطب، وينظر إلى هذه القيمة عادة بوصفها قيمة تأسيسية. ومع ذلك، فمن المهم التمييز بين ما يمكن أن نسميه واجب أبقراط في فعل الخير: واجب الطبيب للعمل على مصالح المريض، والمصلحة "الاجتماعية"، والتي قد تشير إلى واجب إفادة المجتمع ككل.

 

ويساعد هذا التمييز في إلقاء الضوء على حقيقة أن بعض الأفعال الصالحة اجتماعيا هي تقديرية: إذ ليس لدي التزام بالتبرع بجسدي للعلوم الطبية بعد موتي أو للتبرع بواحدة من كليتي لشخص غريب مريض بالفشل الكلوي. ولكن هناك واجبات (أبقراطية) أخرى للمصلحة تبدو إلزامية، مثل واجب العاملين في مجال الرعاية الصحية تجاه مرضاهم.

 

(د) العدالة: تفسر العدالة غالباً على أنها تعني أنه ينبغي لنا علاج الحالات المتشابه بالتساوي. ولكن بطبيعة الحال، هذا يعتمد على القدرة على معرفة ما إذا كانت هذه الحالات متماثلة أو متعاكسة. فعند تخصيص رئتين للزرع، فهل نتصرف بشكل عادل عندما نجعل لغير المدخنين أولوية أدنى من المدخنين (بمعنى هل أن هذه الحالات غير متشابه ؟)، أو ينبغي أن يكون المعيار الوحيد ذي الصلة هو الحاجة الإكلينيكية، وفي أي الحالات يكون المدخن وغير المدخن، حالات متشابه. وفيما يتعلق بالرعاية الصحية، فمن النادر أن يمنح كل مريض إمكانية الوصول لأفضل علاج الطبي، لذلك فإن العدالة قد تعني توزيع الموارد الشحيحة بعدالة وشفافية.

 

هذه المبادئ هي الفلسفة الأخلاقية الأقرب إلى التوظيف من الفلسفة المجردة، ولكنها مع ذلك تقترض من التقاليد التي رأيناها في الأجزاء السابقة. لذلك، فإن احترام الاستقلالية الذاتية للمريض قد يوصف بأنه من آداب المهنة لأنها ذات قيمة بغض النظر عن العواقب المترتبة على قرار المريض. ففعل الخير وتحقيق المصلحة وعدم الإضرار هي مبادئ تستند إلى العواقب بوضوح، والتي تتطلب منا أن نأخذ في الاعتبار المصالح الممكنة والأضرار. أما أخلاقيات الفضيلة فقد تكون معنية بشكل رئيسي بفضائل "العمل الطيب " والعمل بالعدل.

 

وفي حين أن هناك من يعتقدون بمقاربات الـ "مبدأ الواحدsingle principle " –فالتحرريون، على سبيل المثال، يعتقدون أن الإجراءات على حق إذا، وفقط إذا، ما احترمت الاستقلالية الذاتية للشخص، ـ فإن معظم الناس يتقبلون فكرة أن المبادئ الأربعة قد يكون لها دور في عملية صنع القرار الطبي. وفي الواقع، فإن أكثر من مبدأ يمكن أن يكون ذو صلة في وقت واحد. وأحيانا فإنها قد تصب في الاتجاه نفسه: فعلى سبيل المثال، إن احترام الاستقلالية الذاتية جيد بشكل عام للمرضى عندما نخبرهم الحقيقة، ونحترم خصوصياتهم، ونجعلهم يأخذون قرار علاجهم بأنفسهم، فهذه أيضا ذات أهمية بالنسبة للمصلحة الخاصة وفعل الخير.

 

وفي أوقات أخرى، قد تتعارض المبادئ مع بعضها البعض. وفي الواقع، فإن كل معضلة طبية يمكن أن تؤطر بمصطلحات التوتر بين اثنين أو أكثر من هذه المبادئ الأساسية.

 

بل إنه قد يقال إن السبب في صعوبة وتعقيد بعض القضايا هو بالضبط لأنها حالات تتعارض فيها المبادئ الأساسية التي يتقبلها معظمنا. فمثلا في حالات المساعدة على الانتحار: قد يوحي مبدأ الاستقلالية الذاتية بأنه يجب على المختص احترام رغبة المريض في الموت، وعكس هذا المبدأ، فإن عدم إحداث الضرر يحرضنا ضد مساعدة الأطباء لمرضاهم على الانتحار. وبهذا ففي حين أن المقاربة المبدئية قد تمكننا من وصف المعضلة الأخلاقية بوصفها صراعا بين المبادئ المتنافسة وتحديد ما هي القيم الهامة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، إلا أنها من النادر أن تقول لنا ما الذي يجب القيام به. بدلا من ذلك، فعندما تتضارب المبادئ فلا مفر من الحاجة لاتخاذ قرار بشأن العامل الأكثر أهمية في ظروف معينة. وقد يكون أحد الحلول هو ترتيب المبادئ، ولكن أي تسلسل هرمي يتطلب تعليلا لا يمكن للمبادئ نفسها أن تقدمه. فإذا أردنا أن نقول، على سبيل المثال، إن مبدأ الاستقلالية له الأولوية على مبدأ تحقيق المصلحة، إما بصفة عامة، أو في حالة معينة، فنحن بحاجة لشرح لماذا.

 

(3) الإفتاء Casuistry:

في حين اعتاد الفلاسفة الأخلاقيون على مناقشة مبادئ عامة ومجردة، يميل الأطباء إلى أن يكونوا أكثر اهتماما بالحالات. فبالنسبة للأطباء، فإن المسائل الأخلاقية لا تسبق وقوع الحالات الصعبة، بل تظهر عنها. وساهم ذلك إلى تجدد الاهتمام بالإفتاء، أو المنطق المنصب على الحالة القائمة، وهو التقليد الذي وجدت جذوره في اللاهوت الروماني الكاثوليكي.

 

في الإفتاء، وبدلا من البدء بالمبادئ الواسعة المجردة (من أعلى إلى أسفل)، نبدأ بالاستجابة لحالات وتفكير محدد عن طريق القياس (من أسفل إلى أعلى). وهذا، كما يشير جون أراس، يشبه التنمية الإضافية للقانون العام . ومن حيث الجوهر، فإن نقطة انطلاق الإفتاء هي فكرة أن اليقين الأخلاقي مستمد من استجابتنا الحدسية المشتركة لما يطلق عليه الحالات النموذجية paradigm cases، وأنه يمكن أن نقترب من قضية جديدة من خلال تحديد التشابه والاختلاف بين الحالة الجديدة والحالات التي لدينا حل لها في الماضي. وفي حين أنه من المهم أن نستفيد من التجارب السابقة عند معالجة المعضلات المستحدثة، فإن هناك عدد من المشاكل مع الإفتاء، فأولا: نحن نعتقد أن حدسنا سوف يجسد في بعض الأحيان أحكاما صالحة كونيًا - مثل إدانة اعتداء الأطباء النازيين على الأسرى وتوظيفهم لإجراء البحوث خلال الحرب العالمية الثانية- ـ ولكن هذا استثناء وليس قاعدة. وعلاوة على ذلك، فإنه ليس من الواضح أن استجابتنا البديهية بشأن قضايا وحالات 'سهلة ' يساعدنا عندما نواجه بالخيارات الأخلاقية الأكثر صرامة. على سبيل المثال، يمكننا أن نتفق جميعا على أنه سيكون من الخطأ قتل الأطفال المعوقين. ولكن كيف يمكن أن يساعدنا ذلك عندما نواجه بمسألة من قبيل ما إذا كان من الصواب سحب العلاج عن الوليد المعاق بشدة ؟ فقد يقول البعض إن الحالات متشابهة وإن كلا من الحالتين لا تجوز مطلقا، في حين أن آخرين قد يشيرون إلى اختلافات هامة بين الحالتين.

 

وثانيا، أن المنطق المستند على الحالة سوف يسفر فقط عن رد محدد إذا كان هناك إجماع على ما يمكن أن يكون تشابها ذي صلة. فهل الإجهاض على سبيل المثال يشبه القتل (قتل إنسان بريء) أو أنه يشبه منع الحمل (السماح للنساء بتنظيم قدرتهن الإنجابية) ؟ ودون التوصل إلى اتفاق على قضايا أخلاقية جوهرية، فإن الفتوى ستزودنا فقط بدليل إرشادي فقير ومقتضب.

 

وثالثا، إن القياس على قانون عام قد لا يكون تاما. يحتوي القانون العام على نظم سابقة ملزمة، وأفراد متماثلين (القضاة) الذي يعد تفسيرهم للقضايا السابقة سلطوي. وفي حقل البيوطيقا، لا يوجد خبراء أخلاقيون محددون بشكل واضح للفصل في التفسيرات المتنافسة للسلطة السابقة.

 

ورابعا، ليس من الواضح كيف يمكن أن نسترشد بالقرارات التي اتخذت في الحالات السابقة ما لم تكن تلك القرارات قد استندت إلى نوع من المبدأ العام. يمكننا، على سبيل المثال، أن نقول إن حرمان شخص من حريته عادة ما يكون خاطئا، لكننا قد نفكر في الظروف الاستثنائية التي يكون فيها الاعتقال مبررا، ربما بسبب أن الشخص يعاني من مرض عقلي خطير يمكن أن يشكل تهديدا جديا لنفسه، أو لغيره. ونخلص من هذه العملية العقلية إلى أن المبدأ العام القائل بأن الاعتقال الإلزامي سوف يكون مشروعا عندما يكون هناك خطر جدي.

 

من جهة أخرى، حتى لو أن الفتوى – مثل المحافظة – لا تقول لنا ما الذي يجب القيام به عندما نواجه معضلة صعبة، فسيكون من الخطأ التقليل من الدور الهام الذي تلعبه الحالات في البيوطيقا الحديثة. وفي القسم السابق، رأينا أننا سنكون غالبا على خلاف بين الاستقلالية وعدم الإضرار. وعلى مستوى عال من التجريد، فإنه من المستحيل بالنسبة لنا معرفة أيا منهما ينبغي أن يأخذ الأولوية. وفي سياق قضية حقيقية، فقد يكون من الممكن أن نفكر لماذا يوجد، في هذه الحالة بالذات، قاعدة للتفكير بأن الاستقلالية أو عدم الإضرار أكثر جدوى من الأخرى. وبالإضافة إلى استخدام القضايا "الحقيقية"، تميل البيوطيقا إلى التوظيف المكثف لحالات متخيلة، أو تجارب فكرية لم تحدث بعد.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

 

 

 

أضف تعليقك