الأردن وعقدة ميدان التحرير

الرابط المختصر

شنّت الأجهزة الأمنية الأردنية حملة توقيف لأكثر من 35 حراكيا وشخصية معارضة صبيحة يوم 24 مارس/ آذار الجاري، لمنع تجمع احتجاجي في الذكرى الحادية عشرة لانقضاض الأمن على اعتصامٍ طالب بالحريات والعدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين، ليصبح مناسبة تاريخية لتجديد المعارضة المتّسعة لسياسات الدولة الأردنية الداخلية والاتفاقيات الأمنية والاقتصادية التي تربط مصير الأردن مع الكيان الصهيوني وتعمّق التبعية للسياسات الأميركية.

كشفت قسوة القمع للاعتصام عام 2011 على دوار الداخلية، المعروف أيضا باسم دوار جمال عبد الناصر (في جبل الحسين في عمّان) في حينها رعب الدولة من تجمّع يتحول إلى "ميدان تحرير" أردني، مشابه لاحتجاجات ميدان التحرير في القاهرة، الذي أسقط الرئيس الراحل حسني مبارك، حتى أن الأجهزة الأمنية نفذت نسخة مما سميت "موقعة الجمل" حين استخدم الأمن المصري الجِمال وأعدادا من البلطجية للاعتداء على المتظاهرين، إذ جلب الأمن الأردني أصحاب سوابق بحافلات ومركبات لمشاركة قوات الدرك في الهجوم على المعتصمين الأردنيين السلميين، ما أدى إلى جرح مائة من المحتجين ومقتل متظاهر نتيجة تدافع الحشود الهاربة من الضرب في كل الاتجاهات.

من يومها، حرصت أجهزة الدولة، بل وعملت على عدم السماح لأي موقع في الأردن أن يصبح "ميدان التحرير"، فجرى إغلاق (وهدم) كل المساحات التي تتيح احتجاجاتٍ في موقع دوار الداخلية، وتبعه تسييج الدوار الرابع (في جبل عمّان) أمام مبنى رئاسة الوزراء، الذي أصبح ساحة للاعتصامات، أي إغلاق مساحات التعبير المكانية، ومنع أي موقعٍ من أن يصبح رمزا تاريخيا للمعارضة. بالتالي، أصبحت الأجهزة الأمنية تتأهب أسابيع قبل 24 مارس/ آذار من كل عام، لمراقبة الدعوات إلى إحياء الذكرى وعودة الاحتجاجات وترصدها، لكن الموقف الرسمي هذا العام بالذات كان أكثر حدّة، بسبب تزايد التوتر والاحتقان بين الدولة وفئات واسعة من الشعب الأردني، بعد استنتاج وصلت إليه، حتى أعضاء من نخب الدولة، أن لا أهمية لرأي الناس أو معاناتهم ومطالبهم عند صنّاع القرار.

لا يعني ذلك أن آلافا مؤلفة كانت ستشارك في الاعتصام الذي دعت إليه لجنة المتابعة الوطنية العليا، والحراك الموحد وحراكات متفرّقة، كل على حدة، فهناك خوفٌ من انهيار الاستقرار في الأردن تشوبه شكوكٌ أو مخاوف من الشعارات مرتفعة السقوف التي تنال النظام والملك نفسه، ومنها من يطالب من الخارج والداخل، بإطاحة النظام، من دون ثقة ببديل وخوف من تدخل خارجي يطيح استقرار الأردن. ذلك لا يغير من غضب فئات من النخب، بمن فيها من كانوا مقرّبين من القصر، وقيادات عشائرية، وفئات مسحوقة فقدت ثقتها بالتغيير وبالدولة، فهي مغيّبة، وعليها تلقي تداعيات ارتفاع الأسعار وتزايد نسب البطالة والفقر، والخوف على مستقبلها ومستقبل أولادها وحاضرهم.

كان هذا العام مختلفا بعض الشيء عن الأعوام الأخرى، وقد يفسّر خوف الأجهزة الأمنية والقصر، ففي آخر سنتين، وبدلا من تحقيق الوعود الإصلاحية، شهد الأردنيون انتكاسة وراء انتكاسة، من تعديلات دستورية تضع كل السلطات بيد الملك، فضاع أي أملٍ في مشاركة واسعة وحقيقية وتمثيل نيابي في صنع القرار، وشكّل إعلان تشكيل مجلس أمن قومي يعلو على الحكومات والبرلمانات وجهاز القضاء صدمة حتى لأشد الموالين وأعتى المعارضين، فبالنسبة إليهم؛ جرى إلغاء أدوار الجميع، من مكوّنات دولة وأحزاب ونقابات واتحادات، وجاءت مخرجات ما سميت لجنة التحديث السياسي بقانوني أحزاب وانتخاب، يفتح مرحلة جديدة من الأحزاب تتشكل تحت رعاية شخصيات رسمية أو شبه رسمية، وانتخابات تجري هندستها لضمان الولاء التام، وهامش انتقادات لا يعلو على السقف المحدّد له، ولا يتحدّى النهج الرسمي، السياسي والاقتصادي، الذي هو أصلا مصدر الخلل.

اللافت للانتباه أن مقرّبين للحكومة يقولون إن القصر أبلغهم أن تشكيل مجلس الأمن الوطني يهدف إلى منع أي جهة متطرّفة من الوصول إلى تشكيل حكومة متطرّفة في حال فوزها في الانتخابات، خصوصا أن الملك قد يوافق على تشكيل حكوماتٍ برلمانيةٍ حزبية، حكومة متطرفة يتزعمها الإخوان المسلمون أو إسلاميون أشدّ تطرفا، وهو تفسير لا بد من التوقف عنده، إذ إن الإخوان المسلمين شاركوا في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، بل ووافقوا على قانون الأحزاب، وهي مفارقةٌ لا تعدّ استثناءً في تاريخ الدولة الأردنية مع "جماعة الإخوان" التي دعمت النظام ضد اليساريين والقوميين في الخمسينيات والستينيات، من دون أن تنشأ عن ذلك ثقة متبادلة، فالخوف من استقواء الإخوان المسلمين وإمكانية تقبل الغرب حكمهم زاد بعد الانتفاضات العربية، خصوصا وأن العلاقة لم تكن تحالفية أو تعارضية بالمطلق، بل لم يسلم "الإخوان" من فترات قمع وهجوم من الحكومات والأجهزة الأمنية. لكنه تبرير غريب، إذ إنه يستثني ويقصي جميع الاتجاهات السياسية، ما عدا الموالية تماما للسياسات، فما فائدة تشكيل حكوماتٍ وإجراء انتخاباتٍ لا ولاية أو قدرة تشريعية لها؟ وكيف يمكن ضمان استقلالية للقضاء في حال تولي مجلس أمني أمور الدولة؟

استفزّت فكرة إنشاء مجلس أمن وطني تفوق صلاحياته الأفرع الثلاثة للدولة أغلب خبراء الدستور من موالين ومعارضين، ووجّهت ضربة حادّة لطموحات الحقوقيين والأحزاب بالعودة إلى دستور عام 1952، الذي وضع أسس نظام ملكي نيابي، يضمن استقلال القضاء وفصل السلطات، وبدت كل آمال التغيير، حتى لو بخطوات صغيرة، محض سراب. كما أن اتساع الهوة بين الدولة والشعب لم ينتج عن السياسات الداخلية فحسب، ففيما كانت الأحزاب والحراكات الشبابية وقيادات عشائرية، وحتى أصوات مسؤولين سابقين، تطالب باستعادة سيادة الأردن من اتفاقيات مع إسرائيل وأميركا، أو على الأقل تقليل التبعية لكيانٍ ما زال في وعي الأردنيين، وفي الحقيقة، عدوا استراتيجيا للأمن القومي الأردني والعربي، ومع واشنطن التي ما فتئت تدفع الأردن تجاه التطبيع وتحويل أراضيه إلى معسكرات وقواعد للجيش الأميركي، كان ما يحدث العكس تماما، فجرى توقيع معاهدة "دفاع" عسكرية مع واشنطن، حوّلت الأردن إلى "قاعدة انطلاق عمليات أميركية نوعية" ضد من تعدّهم أميركا أعداء لها، وتنتقص من سيادة الأردن بالسماح للعاملين في غرف العمليات بالدخول والخروج من دون موافقة السلطات المحلية أو حتى معرفتها بمهماتهم أو أسمائهم. ودخلت البلاد في اتفاقية تطبيع جديدة مع إسرائيل، يجري فيها تبادل مياه محلاة من البحر الأبيض المتوسط بطاقة شمسية من وادي عربة، وبالتالي شطب كل خطط تحلية مياه البحر من الجهة الأردنية.

لا نعرف تماما ممّا خافت الدولة وأجهزتها، نعي أن شعارات لجنة المتابعة الوطنية قد ساهمت في إخافة الدولة، ونعلم أن هناك من يبتزّ الدولة مستغلا مظلومية الشعب الأردني، ولكن الاعتقالات التي طاولت نائبين سابقين ولواء عسكريا متقاعدا وشخصيات كانت قريبة من النظام، إضافة إلى ترهيب بعض عائلات الموقوفين، دلت على فقدان أعصابٍ لافت.. وقد كان الهدف المباشر منع الاعتصام، ولذا جرى إطلاق سراح معظم الموقوفين، لكن الخطير أن ردّة فعل الدولة تثبت أنها ماضية في طريقها وسياساتها، في نهجٍ يُفقِدها حتى أشدّ الموالين لها. فماذا يريد القصر؟ تقول تجارب الدول إنه لا يمكن الاعتماد على أميركا ودعمها، وهناك حدود للسيطرة الأمنية من دون التحوّل إلى دكتاتورية دموية؟ موقف القصر غير مفهوم، فهو لا يضمن سلامة النظام، ولا الشعب، ولا الأردن ذاته.

*المصدر: العربي الجديد